لا يطمئنا أن يكون إطلاق النار على موكب رئيس الوزراء قد تم على سبيل الخطأ، وأن الحادث لم تكن له أهداف سياسية، لأن العذر فيما جرى أقبح من الذنب. وإذ تسرنا نجاة الدكتور هشام قنديل، ويحزننا لا ريب أن يقتل أحد المواطنين بسبب النيران الطائشة التى أطلقها الجناة، إلا أن جوهر المشكلة يكمن فى خروج مجموعة من المواطنين إلى الطريق فى قلب العاصمة مسلحين بالبنادق والخرطوش. باعتبارها من عتاد معركة كانوا متجهين إليها أو خرجوا لتوهم منها، المشكلة أن السلاح انتشر بين أيدى كثيرين، حتى أن ضابطا كبيرا قال لي إنه أصبح مثل علب السجائر في بعض الأوساط، بمعنى أنه انتشر حتى عدت حيازته أمرا عاديا ومألوفا. وبالنسبة لكثيرين فإن الواحد منهم أصبح يضع علبة السجائر فى جيب والخرطوش أو البندقية فى الجانب الآخر. بالتالى فإنه لم يعد وارداً ما إذا كان المرء يحمل سلاحا أم لا، ولكن السؤال هو ما إذا كان السلاح مرخصا أم لا. ناهيك عن أنه في مناطق أخرى كالصعيد فإن وجود السلاح من لوازم الأسرة ومقتضيات الرجولة، بحيث يعيب المرء أن يكون بيته خلواً من السلاح. الذين أطلقوا الرصاص على موكب الدكتور هشام قنديل كانوا مجموعة من العاطلين الذين حملوا سلاحهم معهم بكل جرأة، وحين حال الموكب دون انطلاقهم في الشارع، فإنهم اخترقوه وأمطروه بوابل من الرصاص الذى أصاب السيارة وقتل أحد المواطنين وشاء حظهم العاثر أن يكون اشتباكهم مع موكب رئيس الوزراء الأمر الذى حول الاشتباك إلى خبر تناقلته مختلف وسائل الإعلام، وهو ما سبق أن تكرر مع محافظ البنك المركزي ومع محافظ كفر الشيخ، الأمر الذي ترتب عليه استنفار الشرطة على وجه السرعة وضبط الجناة خلال ساعات قليلة. وهذا الذي حدث مع الثلاثة يتكرر بصفة شبه يومية مع آخرين في القاهرة وفي محافظات الدلتا صعيد مصر، إلا أن الإعلام والشرطة لا تكترث به لأن ضحاياه من المواطنين العاديين الذين لا يذكرون إلا فى صفحات الوفيات ودفعوا لذلك ثمناً. الحسنة الوحيدة لما جرى أن الحادث نبهنا إلى أن الانفلات الأمنى لا يزال يعشش في القاهرة أيضاً، وأن أي فرد يمكن أن يتعرض له ويكون ضحية له، بمن في ذلك رئيس الوزراء شخصياً وإذا كان التجاذب بين السياسيين والمثقفين الحاصل في البلد قد صرف الانتباه عن كثير من المشكلات الأساسية التي يعاني منها المجتمع، إلا ان ما تعرض له موكب رئيس الوزراء أعاد إلى الواجهة أمثال تلك المشكلات المسكوت عليها. لقد شاءت المقادير أن تنشر جريدة «الأهرام» في ذات اليوم الذي وقع فيه الحادث بعض الأخبار المثيرة التي صورت لنا المدى الذي ذهب إليه الانفلات في مصر بعد الثورة، الذي استصحب معه جرأة غير معهودة على القانون والنظام العام في البلد. من تلك الأخبار ما يلي: ضبط «2700» هارب من تنفيذ الأحكام و«460» قطعة سلاح و«22» سيارة مسروقة في حملات أمنية بالقاهرة والجيزة مع كل طلعة شمس يقام «300» عقار مخالف وخلال «4» سنوات «من 2009 إلى 2012» أقيم «27» ألف عقار مماثل فى مصر ولذلك أصبح فى البلد «450» ألف عقار بدون ترخيص عمليات البناء غير المشروع أتت على «120» ألف فدان من الأراضي الزراعية وأدت إلى تبويرها بالكامل في قرية كفر أبو جمعة «مركز قليوب بمحافظة القليوبية» قام الأهالي بقطع الطريق الزراعي بين القاهرة والإسكندرية بعدما قام مجهولون بخطف طفلة من القرية واشتراط دفع فدية لإطلاقها. وهو ما لجأ إليه أهالى قرية سمهود بمحافظة قنا الذين انفجر غضبهم جراء اختفاء إحدى بنات القرية فتجمهروا أمام محطة سكة حديد أبوتشت، وقاموا بمحاولة لتعطيل قطارات الصعيد. أمثال هذه التفاصيل كثيرة حيث نطالعها كل يوم في صحف الصباح. وما نسمعه من حكايات على ألسنة الناس أضعاف ما نقرؤه أو نشاهده على شاشات التلفزيون. وهي تكاد تجمع على أمرين، أولهما أن الانفلات الأمني لم يعالج بشكل حاسم رغم مضي أكثر من سنتين على الثورة، وثانيهما أن ضعف الأمن أو غيابه رتب نتيجتين، الأولى أن منسوب الجرأة على القانون ارتفع بشكل ملحوظ، حتى بدا أن البعض أصبحوا يتصرفون وكأنه لا توجد في البلد سلطة، والثانية أن الغياب شجع البعض على أن يتولوا بأنفسهم تحصيل الحقوق وإنزال العقاب على مرتكبي الحوادث، وهو ما لاحظناه في سحل الأهالي لبعض اللصوص والبلطجية وتعريضهم للضرب المفضي إلى الموت. وثيقو الصلة بالأجهزة الأمنية يعترفون بالقصور ويرجعونه إلى أسباب عدة، بعضها يتعلق بالإمكانيات البشرية والمادية المتاحة والبعض الآخر يتصل بالبيئة السياسية. وأياً كان قدر الوجاهة فى تلك الأسباب فإنها تعني فى نهاية المطاف أن المشكلة الأمنية لم تحل، وأن ما بذل من جهد طوال السنتين الأخيرتين لم يحقق الهدف المرجو، كأننا لم نحسن التشخيص وبالتالي لم نحسن العلاج. الأمر الذي لا حل له سوى أن نغير «الطبيب» ونستبدله بآخر، وقد يكون الحل في أن نعرض الحالة على مجموعة من الأطباء المختصين الذين يحسنون التشخيص ووصف العلاج. أما أن يترك الأمر كما هو عليه الآن فإن ذلك لن يؤدى إلى تدهور الحالة وتراجع قابلية المريض للشفاء، وبالتالي تراجع أملنا في الاستقرار الذي يسمح لنا بإقامة أبنية النظام الجديد.