هذه حلقات متتابعة لرواية تتكون من ثلاثة أجزاء «ثلاثية» أولها «التغريبة» يتلوها «مشلهت والضياع الكبير» ثم الجزء الأخير «مشلهت والضياع الأكبر». تتمدد هذه الرواية في مساحة زمنية كبيرة تبدأ من اليوم الأول لانقلاب الرئيس الأسبق جعفر نميري في صبيحة الخامس والعشرين من مايو «1969م» وتتواصل أحداثها إلى معتقل قوانتانمو في القاعدة الأمريكية في كوبا. تُنشر لأول مرة مكتملة بأجزائها الثلاثة في جريدة «الإنتباهة». أيام السجن تمضى رتيبة الا أنها متنوعة بما تستقبله تلك الغرفة من نزلاء وما تلفظه من نزلاء بعضهم يفرج عنهم وبعضهم يُنقلون إلى سجن آخر دائماً كان هناك تعبير يتردد على ألسنة المفرج عنهم: * نحن السابقون وأنتم اللاحقون ... كانت زيارات الأهل لا تنقطع وأعمدة الطعام التي كان يشعر مشلهت في قرارة نفسه أنها تضيف عبئًا جديداً على صهره عبد الودود كانت تثير البهجة وسط رواد الغرفة حتى إن حراسهم كانوا يشاركونهم أحيانًا تلك الوجبات وان كان هناك شيء يزعجه فهذه الأعمدة وهى التي تدفعه الى التأمل في الخروج. أما السجن أو الحبس فهذا شيء لم يخطط له لكنه إن دعت الضرورة سيحتمله ولهذا كان يقول لصديقه إبراهيم: * أنا والله ما خايف من السجن ولا بهمني ... والليلة لو كنت محوش قروش للأولاد اقعد هنا لحدي ما الجماعة الجابوني هنا يفتروا ... لكين برضو دلوقت ما مستعد أتساوم معاهم ... وما مستعد اشهد ضد زول بالزور ... وأنت اطمئن أخوك مش حينكسر. هذا الكلام غريب جداً بالنسبة لإبراهيم فهذه أول مرة يسمع مشلهت وهو يتحدث بهذا الإصرار وهذه القوة من أين استمد مشلهت هذه القوة وهو لم يعمل بالسياسة يوماً واحداً؟ هل تغيرت مفاهيمه بمجرد دخوله السجن؟ لابد أن بعض الرجال يظلون بذرة مؤجلة الى أن يواجهوا موقفاً صعباً وكما يقول المثل الإنجليزي الرجل يجب أن يكون كالشاي لا تظهر جودته الا في الماء الحار. وتردد عليه عدد من الأصدقاء ومن بينهم نور الدين الذي اخبره ذات مرة أن إجازته قد انتهت وانه سيسافر وأنه لا يزال يعرض عليه فكرة الاغتراب ... خاصة وظروف سجنه الأخيرة ربما تكون حافزاً له للتفكير في الاغتراب ولكن مشلهت لم يجد سبباً يجعله يفكر في الاغتراب حتى ولا ظروف سجنه التي يمر بها. زوجته وأطفاله زاروه في الأيام الأولى فأشار عليهم بعدم زيارته والاكتفاء بزيارة ابنه حيدر الذي يحمل له الطعام والملابس وغيرها من المستلزمات. في هذه الفترة زاره محقق مرة واحدة واستدعاه في مكتبه وكان على درجة كبيرة من المجاملة وافهمه أنهم هنا يؤدون واجبهم فقط ولا يتحمسون لمضايقته أو إيذائه ... والمضايقة التي تأتيه أو ستأتيه ستكون من جهات أخرى. استمرت محاكمات الوزير متلفزة ... وكان هناك بعض الشهود والذين كانوا في يوم من الأيام من المقربين من الوزير كانوا اكثر الناس حماساً وشهادة ضد الوزير ... لم يجدوا تهمة إلا والصقوها به وكانوا يبرزون وثائق إدانة ويتعرفون على توقيع الوزير على وثائق إدانة وكان هناك بعض الشهود الذين اعتبرهم ممثل الاتهام شهوداً عدائيين الا إن مصيرهم لم يصل الى مستوى مشلهت. وذات يوم جاء أحد أصدقائه وكان يعمل مستشاراً قانونياً قدم له النصح كصديق أن يقدم التماساً الى رئيس المحكمة يطلب فيه الرأفة بحالته ولكن مشلهت رفض وطلب بدلاً من ذلك أن يرفع المستشار القانوني عريضة باسمه لرئيس القضاء يطلب فيه أن يقدم الى المحاكمة أو يفرج عنه ... ولكن المستشار القانوني أوضح لمشلهت أنه لا يزال يعيش بعقلية العهد البائد فهذه المحاكم لا تخضع لرئيس القضاء وليست تابعة له. ويتساءل مشلهت: * وطيب بتتبع لمين؟ * بتتبع لمجلس قيادة الثورة أو للرئيس ولو أنت عايز نحنا نكتب خطاب باسمك للرئيس نطلب فيه الإفراج عنك. ولكن مشلهت يواصل سؤاله: *يفرجوا عنى ليه؟ كدا ساكت بدون محاكمة؟ ويجيب المستشار القانوني: ده حق من حقوقك... أي واحد من حقو إنو ما يحبس من دون محاكمة... وأنت بتكون بتطالب بحقك القانوني... وما في داعي نذكر ليهم أنو ما يقدموك لمحاكمة أو يفرجوا عنك. ويصيح مشلهت * طيب وهم من الأول سجنوني ليه لما مش عايزين يقدموني لمحاكمة؟ * يا اخى أفهمني ... ما في زول اليومين دى بشغل نفسه بجنس الأسئلة بتاعتك دى .. يا اخى سجنوك وخلاص .... زيك وزي الف واحد مسجون بدون محاكمة... يعنى أنت عايز تخلق منها قضية؟ ولكن مشلهت يصر على موقفه وإنه سيكتب الخطاب بخط يده الى الرئيس يوضح فيه أنه محبوس منذ اكثر من شهر دون أن توجه له آية تهمة فإما أن يقدموه للمحاكمة أو أن يفرجوا عنه وكل ما يطلبه من المستشار القانوني أن يحمل ذلك الخطاب الى الرئيس. وعلى مضض يوافق المستشار القانوني على أخذ ذلك الخطاب وان كان لا يضمن أن يصل الى الرئيس فهناك أكثر من نقطة احتجاز يمكن أن يحتجز عندها الخطاب فلا يراه الرئيس ولا يراه صاحبه. مضى شهر آخر ازدادت فيه معرفة مشلهت بالنزلاء في غرفته.. فهذا عوض جعران ... خبير بكل أمور سرقة العربات ومفاتيحها وهو لا يفعل اكثر من قيادة السيارة الى حوش في أم درمان وتسليمها لكدفور الحلبى والذي يتولى أمر تشليحها وتحويلها الى إسيرات تتفرق على العربات ... ولا يمكن بالطبع لصاحبها أن يتعرف على كرنكه داخل عربة أخرى وعوض جعران يتحدث عن أم أولاده التي تركها في مدينة الدويم وهو يرسل لهم ما يكفيهم من تلك الخبطات التي يتمكن منها ... ويبدو عليه انه قد بدأ حياته صبى ميكانيكي الا أن الظروف القاسية التي عاشها دفعته الى الانحراف وهو لا يدخن الا انه مدمن «سفة» أما داود شمبر فهو قد بدأ حياته عجلاتياً الا انه تحول الى نشال بفضل أصابعه الطويلة وخفة يده ... كما انه كان يتمتع بخفة دم وروح مرحة وقد أطلق عليه زملاء المهنة لقب «شمبر» وذلك لانه نشل أحد الأشخاص وكان يمني نفسه بغويشات ذهبية فإذا بها تطلع شنابر ... وهو يقول مفاخراً: * نحنا علمنا النشل عمك جبادة الأعور ... تصور دا بنشل بيض القمرية وهى العويرة راقدة في عشها قايلا تحتها فكي ... مضى أكثر من شهر على خطاب مشلهت للرئيس ومشلهت لا يدرى هل وصله وهل سيتذكره وما الإجراء الذي سيتخذه؟ الواقع إن الخطاب لم يصل الى الرئيس فقد احتجزه أحد الأشخاص في الطريق وأخذه الى ممثل الاتهام الذي استشاط غضباً: * كويس... هو قايل الحركات دى بتنفعه؟ خليه لما يتجرس تمام ... يكتب للرئيس قال ... والرئيس حيعمل ليهو شنو؟ نحن مفهمين الرئيس انو دا راجل خطير وعايز يفشل علينا محاكمات الثورة والرئيس قال خلاص خلوه عندكم لحدي ما يتأدب ... ولكن الشخص الذي احتجز الخطاب له رأي آخر... * أنت تفتكر انو حيتأدب؟ -طبعاً حيتأدب ... وليه كتب الخطاب دا لو ما اتجرس؟ * أنت بس بتتخيل ساكت. الزول دا أنت ما عارفو ... الزول دا رأسه زى الحجر .. وبعدين انتو هسع خلقتوا ليهو بطولات ساكت ... دا زول عمره ما اشتغل بالسياسة دلوقت اصبح بطل ... - ما هو نحنا زي دا لما نهزو الآخرين بيخافوا ... * أنت تهز واحد بطل سياسي كان معروف للناس نقول دى معقولة لكن تجيب واحد تخلق منه بطل أهو دا الماً معقول ... ويجادل ممثل الاتهام: - نحنا خلقنا منو بطل؟ دا العوقة دا؟ - أيوا ما هو عشان ظاهر ليك كدا عوقة.. حقوا ما تخلق منو بطل.. ويستفهم ممثل الاتهام: وطيب هسع قصدك شنو يعنى؟ * قصدي انك تغير إستراتيجيتك دى ... لو قلت عايزو ينكسر ما بنكسر لا الليلة ولا بكرة ... ويمكن كمان تحجزوه عندكم هنا كم سنة كدا ويطلع يقود ليك حركة شعبية أنت ذاتك تتحير فيها ... - يعنى هو عنده مؤهلات زعامة وقيادة؟ * تقدر تقول هو ما عنده رغبة في الزعامة ولا القيادة لكين لو الحال اقتضت انو يكون زعيم ... زي ما دخل السجن صدفة برضو يكون زعيم صدفة ... وتكونوا انتو ساهمتوا في بلورة شخصية الزعيم عنده ... طيب أنت بتقترح شنو؟ * أنت مش قصدك الزول تجرسو وتتعبو؟ - أيوه * خلاص فكو من السجن ...... أنت بتستهبل؟ كيف أفكو من السجن وأنا عايز أجرسو واتعبو؟ * تفكو من السجن وبعدين تحاربو في رزقو ... تضيق عليهو في أي محل يشتغل فيهو .... يعنى حيتعيش من وين ودا راجل كان وكيل وزارة يعني متعود على حياة معينة؟... والناس الزمن دا بقت لا بتساعد زول ولا حاجة وخاصة إذا كان زول الحكومة خاتا عينها عليهو ويعنى لو شفت واحد بتعاطف معاهو وبيقدم ليهو أي مساعدة تقوم تعتقل الزول دا لأسباب ما ليها أي علاقة بمشلهت إلا إنك تخلى ناسك يطلعوا إشاعة يقولوا فيها إن الراجل أتقبض لانو متهم بأنه بيساعد مشلهت وبعد شوية كل الناس حيعرفوا الحكاية دى ... ويشعر ممثل الاتهام بفرح غامر وهو يقول: - والله يا آخي رأيك دا وجيه جداً على اى حال أنا شايفو معقول ... نفكو وبعدين نضيق عليهو الخناق ونشلهتو زيادة... تصور دا أسلوب هتلر ما فكر فيهو. على أي حال أنا حأقابل رئيس المحكمة في المسا اليوم في حفلة في السفارة النيجرية .... وحاشوف معاهو الموضوع.