خبران مدهشان أحدهما سار والآخر محزن استدعيا هذا المقال وأرجو أن يتأمَّلهما القائمون بأمر التعليم وإدارات الجامعات الكبرى ليستخرجوا منهما الدروس والعِبر ويستخلصوا العلاج. الخبر الأول يقول إن نسبة الناجحين من حَمَلَة بكالوريوس الإعلام في امتحان السجل الصحفي لتنظيم مهنة الصحافة بلغت (39%) وقال أمين عام اتحاد الصحافيين معلقاً إن نسبة العام الحالي أفضل من سابقتها!! أعجبُ والله أن إدارات الجامعات عامَّة وأقسام الإعلام خاصَّة لم تُقِم سرادق عزاء حزناً على (الجميلة ومستحيلة) وغيرها من الجامعات الكبيرة ذات الصِّيت والسُّمعة أو بالمقابل لم تتصدَّ لاتحاد الصحافيين داحضة هذه الأرقام ومبيِّنة أنَّ اتحاد الصحافيين ليس مخوَّلاً بسحب الاعتراف من الشهادات الرفيعة التي منحتها هذه الجامعات لخريجيها الذين كانوا يظنُّون أنَّ البكالوريوس (مبرئ للذمة) ومؤهِّل لولوج سوق العمل وأنَّ الجامعات أعرق وأرفع من اتحاد الصحافيين وأحقّ بمنح الشهادات منه. الخبر الثاني يقول إنَّ مسابقة دوليَّة في اللغة العربيَّة أُجريت خارج السُّودان فاز بالمراكز الأولى منها أربعة من طلاب جامعة الخرطوم... ليس هذا هو الخبر أرجو أن تصبروا عليَّ قليلاً الخبر هو أن ثلاثة من هؤلاء الطلاب الفائزين في مسابقة اللغة العربيَّة من كليات الهندسة ورابعهم من كليَّة الطب. ولم يكن من بينهم أيٌّ من طلاب الآداب أو الاقتصاد!! دعونا نفكِّك الخبر ونُخضعه للتحليل حتى نُزيل الدهشة لأنَّنا لو فكرنا قليلاً لما وجدنا في الأمر عجباً!! الناس أيها الناس لا يزالون مفتونين بالطب والهندسة بالرغم من أنهما انحدرا كثيراً في سلَّم الوجاهة الاجتماعيَّة والماديَّة بعد أن بلغ المتبطِّلون من خريجي الطب والهندسة الآلاف وبعد أن أصبح خريجو الكليتين أقل أجراً من بعض المهن العماليَّة!! لو أجرينا إحصائيَّة علميَّة لربما وجدنا أن أعلى (500) طالب مُقبِلين على الدراسة الجامعية ممَّن أحرزوا أكثر من (93%) في امتحان الشهادة السودانيَّة، وبالطبع ستجد أنَّهم جميعًا أوشكوا أن (يقفلوا) اللغة العربية، أقول لربما وجدنا أن أكثر من (95%) منهم يُقبلون في إحدى الكليتين الطب والهندسة بتخصصاتها المختلفة وسنجد أن من قُبلوا في كليَّة الآداب وغيرها من الكليات النظريَّة تتراوح درجاتُهم بين ال (50%) وال (70%) بما يعني أن درجات طالب الطب في اللغة العربية أعلى بكثير من درجات طالب الآداب والكليَّات الأخرى النظريَّة! إذن فإنَّ المسألة لا تحتاج إلى (درس عصر) واستفاضة لكي نشرح لماذا أحرز طلاب الكليتين هذه النتيجة الباهرة في تلك المسابقة الدوليَّة في مجال لا يمتُّ لتخصُّصهم بصلة. دعُونات نسترسل لنسأل أين طلاب الآداب؟ وما هي قيمة دراستهم التي فشلت في أن تؤهِّلهم للفوز بما فاز به طلاب الطب والهندسة في تلك المسابقة الدوليَّة التي ظفر بجوائزها المشغولون بمحاضرات علم الأمراض والباطنيَّة والعظام والمشرحة وعلوم الهندسة المدنيَّة والمعمار لا الغارقون بين أشعار المتنبي وأبي تمام؟! العالم العلامة جعفر ميرغني قُبل في كليَّة الهندسة بجامعة الخرطوم بنتيجة باهرة وبعد عام واحد خرج منها ناجيًا بجلده بالرغم من تفوُّقه فقد كان يحلُّ مُعضلاتها لأقرانه حتى بعد أن فارقها وما إن حُوِّل إلى كلية الآداب حتى برز وحصد جوائزها ولفت نظر بروف عبد الله الطيب وبهره وتخرَّج في الجامعة بشهادة مُدهشة كانت حديث مجتمع الجامعة وقتها ثم تحوَّل إلى (التاريخ) فأتى بعلم وفير لم تستطعه الأوائل بالرغم من أنَّه لم يتخرَّج في التاريخ!! لو صبر جعفر ميرغني على الهندسة لأصبح واحدًا من آلاف المهندسين المتميِّزين الذين لا يكترث لهم أو يأبه أحد ولما سمع به الناس ولما أبدع كما يفعل الآن. أين عبد الله ابن د. جعفر ميرغني الذي سار في درب أبيه بذكاء وعبقريَّة جعلته يحتل المركز الأول في امتحان الشهادة السودانيَّة قبل نحو عشرة أعوام؟! لقد بهرني ذلك الشاب عندما استضفناه بين آخرين فور تخرُّجه من الثانوي وكنتُ حينها أُدير التلفزيون.. بهرني وبهر المشاهدين بعلمه وأدبه الذي تجاوز سنَّه بكثير؟ عبد الله جعفر ميرغني تخرج في كلية الهندسة بجامعة الخرطوم ولم أسمع عنه منذ لقائنا بالتلفزيون وأرجو أن أراه في يوم وقد حقق لنفسه وأمته مجدًا في مجاله ولكن بالله عليكم كيف كان سيكون حالُه لو سار على درب أبيه وخرج من محبس الهندسة الظالم الذي يغمر سجناءه البعيدين من الأضواء التي هي أقرب إلى مجالات الآداب والفنون؟! نفس السؤال مُوجَّه حول محبس الطب الذي يضم عباقرة ملأوا آفاق الدنيا لكنهم مغمورون في بلادهم!! أرجو أن أسأل.. ترى لو أن (500) من أوائل الشهادة السودانيَّة التحقوا بكلية الآداب والقانون والاقتصاد.. كيف بالله عليكم ستكون هذه الدفعة عندما يتخرَّجون من حيث كفاءة خريجيها؟ هل كنا سنشهد رسوباً كالذي شهدناه في امتحان القيد الصحفي أو قل في امتحان تنظيم مهنة القانون؟! هل تحتاج الكليات النظريَّة إلى حملة علاقات عامَّة وحزمة إغراءات وحوافز تستقطب المتميِّزين والأوائل حتى تُخرِّج هذه الكليَّات عباقرة في الاقتصاد والقانون والآداب؟! أما كان الأولى بطلاب جامعة الخرطوم الذين تميَّزوا في اللغة العربيَّة من الطب والهندسة أن يفعلوا ما فعله جعفر ميرغني وهو يركل الهندسة ويلوذ بالعربيَّة التي أحبَّها رغم تميُّزه في الهندسة وفي كل شيء؟! قلبي يتفطَّر على آلاف الأطباء والمهندسين السودانيين الذين فرضوا بعبقريَّتهم وكفاءتهم وجودَهم في أمريكا وبريطانيا والخليج العربي والعالم أجمع بينما لا كرامة لهم في وطنهم الذي يضيع أعمارَهم في انتظار الامتياز والخدمة الوطنيَّة والوظيفة التافهة والتخصُّص (المستحيل) بفعل السياسات العرجاء!! مسؤوليَّة من هذه الخرمجة... لماذا صارت كليات الطب أكثر من البقالات؟!