هل كانت الحكومة غارقة في متاهتها، يوم صدَّقت أن حكومة الجنوب طوت معها الملف الأمني ووقَّعت اتفاقية الترتيبات الأمنية، وأردفتها بالمصفوفة التي هلَّل لها الناس وصفقوا؟ وهل كانت مصدِّقة إلى هذه الدرجة أن لحكومة الجنوب كلمة ومصداقية وأنها تستحق الثقة العظيمة التي ألقت الحكومة بُردتها عليها وزار الرئيس البشير جوبا وأحسنوا استقباله؟ هل خُدعت حكومتنا بتصديقها لدولة الجنوب، وسمحت لها بتمرير بترولها عبر أراضينا لتكسب جوبا سلامة نفطنا ونخسر نحن أراضينا ومدننا المُستباحة بواسطة عملاء دولة الجنوب من الجبهة الثورية؟!! ما يحدث شيء محيِّر ويُثير الدهشة بكل ما تعنيه من معانٍ، كيف نُخدع بهذه السهولة، نوافق علي كل مطالب دولة الجنوب، ونعطيها ما تريد ويهلِّل البعض من الغافلين للاتفاقيات وعبور البترول ويتبارى مدبجو الخطابات ومسودو صفحات الصحف وأصحاب الخطب المنبرية، في التبشير بعهد جديد وفتح صفحة أخرى في العلاقة بين البلدين وتحوَّلت عندهم حكومة الجنوب من ذئب مُخادع إلى حمل وديع، ولم يكن فيهم من يدري أن الذئب كان يتحيَّن فرصته للغدر والهجوم والعضّ.. هذا ليس من عندنا.. أمس استدعت الحكومة القائم بالأعمال الأمريكي والبريطاني والنرويجي وأبلغتهم بالوثائق، تورُّط حكومة دولة الجنوب في دعم الجبهة الثوريَّة في هجماتها على مناطق متعددة في ولايتي جنوب وشمال كردفان.. ومدها لهذه المجموعات المارقة والعميلة بالسلاح ووسائل الحركة والمال والاتصالات ومشاركة عناصر من الجيش الشعبي لدولة الجنوب في المعارك التي تجري هناك.. بالطبع ليس الحكومة بأعلم من هؤلاء الدبلوماسيين الغربيين بما يجري فدُولهم طرفٌ أصيل في دعم هذه المجموعات والتخطيط لإسقاط السلطة الحاكمة في الخرطوم واستبدالها بنظام عميل وتابع... وليس من عندياتنا القول باتهام دولة الجنوب، فجهاز الأمن والمخابرات أصدر تصريحاً صحفياً قبل يومين يتهم فيه جوبا بدعم الهجوم على أم روابة وأب كرشولا وأم برمبيطة وغيرها من المناطق، وهو دعم لم يتوقف قبل الانفصال وبعده.. وصدر عن وزارة الخارجية قبل استدعائها لرؤساء البعثات الدبلوماسية الأمريكية والبريطانية والنرويجية، ما يؤكِّد ويعضِّد هذا الاتهام.. فمن يا ترى المسؤول..؟ المسؤوليَّة تقع على عاتق حكومتنا التي لم تصدِّق التوقيع على وريقة المصفوفة الأمنية، فسارعت بفتح الأنابيب ومنشآت البترول وسمحت لنفط الجنوب بالمجيء متبختراً إلى موانئ التصدير، وفتحت الحدود وجلست لصياغة التدابير النهائية لتطبيق ما يُسمَّى بالحريات الأربع وفتحت ذراعيها لاحتضان الطرف الآخر.. بينما كانت جوبا تُضمر الشر ويتآمر قادتُها على بلادنا وتُعد هيئة أركان جيشها مع قوات الجبهة الثوريَّة عمليَّة الهجوم على أم روابة واحتلال أب كرشولا، وإمداد هذه القوات بما تحتاج إليه من دعم وسلاح وعربات دفع رباعي وأموال، ويُشرف قادة عسكريون من إسرائيل ومستشارون غربيون على هذه العملية الضخمة التي انطلقت من أراضي دولة الجنوب.. فقط حكومتنا هي التي كانت تصم الآذان عن أي قول مخالف، أسكرتها المصفوفات التي وُقِّعت، وظنَّت أنَّ جوبا ستكون وفيَّة لما عاهدت حريصة على موثقها الجديد، لكن الحية الرقطاء لا تنسى السم في أنيابها، فلدغت الخرطوم هذه اللدغات السامَّة وادَّعت البراءة بينما كل الأدلة والبراهين تقف ضدها.. قبل أن نمضي أكثر في اتفاقية عبور النفط، علينا أن نحسب المنافع والأضرار جيِّداً، فإذا كانت حكومة الجنوب ليست محل ثقة وتقدِّم الدعم لهذه الحركات وهي مُفلسة ومحتاجة، فكيف بها وهي تحصل على عائدات النفط التي تفوق السبعمائة مليون دولار في الشهر، أي أكثر من ثمانية مليارات دولار في السنة؟ فالحذر.. الحذر فالدم السوداني ودموع اليتامى والأرامل أغلى من كل نفط الدنيا ومن أي رسوم نتحصَّلها منه.. وأمننا القومي أهم بكثير من الانسياق وراء وهم يُسمَّى العلاقة الطيبة مع دولة الجنوب...!! فمتى نعي الدرس؟