الفتيا شروطها صعبة لا تتوافر إلا لقلة من أولي العلم الشرعي، لأنها مرتبطة بالأمور الحياتية وتغوص في أدق وأعمق وتفاصيل الإشكاليات تصل أحياناً حد الرقاب.. ومن شدة خطورتها وعظم مسؤوليتها قيل: «لا يفتى ومالك بالمدينة» وقصتها مشهورة وطويلة لا يتسع المكان هنا لذكرها.. الفتيا يقابلها التنظير لدى العامة ولا يحتاج لمؤهل عال بل هو مجال خصب لكل من هبّ ودبّ للخوض في خصوص الخصوصيات.. في الفترة الأخيرة طفحت على السطح قضية المغتربين عبر وسائل الإعلام المختلفة، ووجدوا أرضاً بكراً ومناخاً مناسبًا ومياهاً وفيرة لزرع الشائعات والأفكار الضحلة في مناقشة قضاياهم المستعصية وغير المستعصية وتجاوزوا الحد واللباقة واللياقة واستخدموا مفردات سوقية لا تسمعها إلا في (الشوارع) أو ممن يسموا ب (الشماسة) الذين يجلسون في الشمس ويوظفون إحدى أهم الحواس الخمس في شم البنزين والسلسيون، هذه العبارات البذيئة يصفون بها المغتربين أقلها ك (الخدم الإهانة الذل الكرامة العبيد السخرية السخرة المشردين عديمي الإحساس شحاتين... إلخ).. حاشا وكلا أن يوصف المغترب بهذه الصفات الذميمة.. تعب قلبي من هذه الخزعبلات وجادت قريحتي، بهذه الأبيات: خيرنا عم البلد كله مدنه وقراه ببواديهو الغني والفقير والبيشحد والعفيف نحن البنديهو حاشا ما قصرنا في حق الوطن ما خدنا من عندو نقدم في السبت دايماً أبداً محال ما بننتظر حدو ليس كل من جلس وعاش في وطنه مكرم وعزيز وليس كل من اغترب وهاجر وبعد عن وطنه مهان وذليل.. لأن العزة والذلة لا يصنعهما المكان والزمان، بل هو من عمل الإنسان.. لا يوجد عمل في الدنيا مهما تواضع أجره يعيب الرجل غير السرقة إذا اعتبرناها عملاً.. أو المكوث في البيت عاطلاً وهو قادر وفيه شوية (حيل).. ليس عيباً أن تعمل ساعياً أو خفيراً أو راعياً أو ماسح أحذية أو نادلاً في مطعم أو مقهى أو طباخاً أو سائقاً أو عامل صحة أو جزاراً أو حمّالاً أو زبالاً أو أي مهنة تخطر على بالك وتعتقدها بمفهومك من المهن الدونية.. عندي لا توجد مهن هامشية ووضيعة ما دامت يدك العليا حتى على الدولة.. لا توجد مهن حقيرة ما دمت لا تسأل الناس إلحافاً، أعطوك أو منعوك.. لا توجد مهن ذليلة ما دامت ماكينة تفريخ للعلماء والأطباء ورجال الأعمال.. لا توجد مهن هزيلة ما لم يخدش وجهك بالسؤال.. لا توجد مهن مهينة ما دام رأسك في العلياء غير مطاطئ.. أصحاب هذه المهن هم من يدفعون مرتبات الرئيس والوزير والدكتور والمهندس والمعلم والخفير والوزارات والمؤسسات والشركات وكل الأركان على مستوى الدولة.. أما على المستوى الأسري والفردي فكل من وصل لأعلى المناصب والقمم صعد على أكتاف هذه الفئة ومهما وصلوا لهذه المكانة المرموقة فلن يصلوا إلى مستوى فهمهم لأن (القلم ما بزيل البلم)، الكثيرون من هذه الصفوة لا يفقهون إلا في مجال تخصصهم بينما هم أميون بامتياز في التعامل مع الناس والحياة.. والذي يشعر بالخجل لوجود والديه معه في بيته أو في مكان عمله أو في أي مناسبة أمام زملائه خاصة والناس عامة بدونيتهما ويتعفف أن يذكر مهنتهما اللتين أوصلاته إلى مجده واكتسابه الشهادة الجامعية وما فوقها، شخص بهذا الفهم لا يستحق لقب البروف والدكتور والوزير.. والطيار.. على النقيض هناك الكثير ممن يفتخرون بآبائهم وأمهاتهم ويروون كفاحهم بكبرياء بمناسبة وغير مناسبة ويؤلفون قصصاً تحكى وكتباً يدرس للأجيال.. ما أحلى الطعام بعد الصيام.. ما أطعمه بعد الكد والتعب والعرق.. ولتعلم يقيناً أيها العامل الكادح البسيط أنك أفضل عند الله من العالم العابد الزاهد الناسك الذي يلتزم المسجد ليل نهار ويعتمد على غيره في رزقه ومعاش أولاده.. عن المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده). وفي حديث آخر: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن داود عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده).