المعلم والمربي الناجح، صاحب المعرفة والخبرة الطويلة كالغيث، حيثما حلّ نفع. هذا القول ينطبق تماماً على أستاذ الأجيال الدكتور عبد الباقي محمد عبد الباقي، الذي جمعنا به لقاء مودة ووفاء، حضره لفيف من السودانيين المقيمين في العاصمة السعودية الرياض، يتقدمهم سعادة سفير السودان لدى المملكة الأستاذ عبد الحافظ إبراهيم محمد، وبعض أركان السفارة، وعدد كبير من رموز الجالية السودانية، وجمع غفير من طلاب المربي الكبير عبد الباقي، وبعض المهتمين بالتربية والتعليم، كما شرّف اللقاء الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد القيادي المعروف. ولذلك كان مدار الحديث حول التعليم في السودان بين الماضي والحاضر، وكيف كانت مخرجات التعليم، وما ينبغي أن تكون عليه حاضراً ومستقبلاً. إنَّ السيد الناظر عبد الباقي محمد قد عمل في سلك التعليم العام، لمدة تزيد عن نصف قرن من الزمان، وترك بصمات واضحة في كل المواقع التي عمل بها، مدرساً كان أو ناظراً، حتى أخرج للأمة قيادات مشهورة وقامات سامقة وعلماء أفذاذاً طبقت شهرتهم الآفاق في كل المجالات العلمية والسياسية والثقافية والعسكرية والأدبية، بعد أن تعلموا وتربوا على يديه تربية هادفة مقصودة، قوامها الانضباط الصارم والمساواة ومحاسن الأخلاق وحب الوطن ونبذ القبلية والجهوية في أوساط الطلاب والمعلمين، ولذلك كان من الطبيعي أن تتناول تلك الندوة أمر التعليم في السودان، استفادة من الماضي واستشرافاً للمستقبل. فقد طوّف سيادة الناظر بتجربته في هذا المجال الحيوي بين حنتوب وخورطقت والفاشر الثانوية والخرطوم القديمة وخور عمر الثانوية تلك المؤسسة التربوية المتفردة التي تعد واحدة من محاسن الرئيس الراحل جعفر نميري، رحمه الله، حيث كانت آخر محطة عمل بها الأستاذ عبد الباقي مديراً لمدرسة. وقد كان، بشهادة طلابه الذين تحدثوا في تلك الندوة، مثالاً للمعلم والمربي الذي يمثل قدوة حسنة لطلابه، إذ كان يطبق معايير للقبول لا تقبل المجاملة، ويتعامل مع أمر التعليم بمهنية عالية قلّ أن تتوفر في هذا الزمن. لقد أجمع المتحدثون في الندوة على أن التعليم قد كان أهم عناصر وحدة السودان، فقد كان القبول للمدارس الثانوية مركزياً، ولذلك لا غرو أن نجد طالباً من النيل الأزرق أو دنقلا أو كردفان أو رمبيك أو حتى من الخرطوم، يدرس في الفاشر الثانوية في أقصى غرب السودان، أو في خورطقت بالأبيض! وهذا التوجه قد جعل أبناء السودان يلتقون في قاعات الدراسة وفي السكن الداخلي فتتمازج ثقافاتهم، وتتلاقح أفكارهم، وتذوب بينهم الفوارق القبلية والجهوية، مما يقوي فيهم الشعور بالانتماء لوطن واحد، ويعزز لديهم الشعور القومي، ويرسخ بينهم قيم الإخاء، ويساعدهم على تبادل الخبرات والتجارب والمهارات، في ذلك المناخ التربوي المعافى، الذي كانت توفره تلك المدارس العريقة التي كان يقوم على أمرها ويديرها أشخاص مخلصون من أمثال عبد الباقي محمد وزملائه من الرعيل الأول والطراز المتفرد. ومن المعلوم أن العملية التربوية والتعليمية تنبني على أركان أربعة هي تحديداً الطالب والمعلم والمنهج والمدرس، وكل تلك كانت متوفرة ومتاحة في السودان سابقاً، إلا أن التعليم كغيره من المجالات قد تعرض لهزة كبيرة في السنوات الأخيرة، نظراً للظروف الاقتصادية والتحولات الاجتماعية التي مرت بالسودان ودفعت بكثير من المعلمين المؤهلين والمدربين إلى الهجرة. ومن جانب آخر تعرضت المناهج الدراسية لفترة من الاضطراب والتخبط كادت تودي بهذا الركن المطلوب في هذا المجال. وقد اعترت المدارس حالة من الإهمال قعدت بها عن أداء الدور المنوط بها بوصفها واحدة من أهم مؤسسات غرس المواطنة لدى الأبناء، لذلك فهي تحتاج للعناية المستمرة من أجل رفع كفاءتها حتى تؤدي رسالتها في ظل التطورات القومية المتلاحقة على كل المستويات العلمية والاجتماعية والفكرية والسياسية. إذن فإنّ المطلوب الآن، حسبما أجمع المتحدثون، هو نظام تعليمي شامل يجمع بين الأصالة والمعاصرة، والكم والنوع، بهدف الارتقاء بجودة التعليم ومخرجاته، ليس عن طريق التلقين الذي يحوّل الطالب إلى مجرد جهاز تسجيل يفرغ محتواه على ورقة الامتحان حتى يحصل على درجات عالية، ويبقى هو دون محتوى تربوي أو معرفي ولا حتى قيمي أو ثقافي، كما هو الحال في المدارس الخاصة، بل تعليم يستلهم تجارب وخبرات المعملين الأفذاذ من أمثال عبد الباقي محمد وجيله، ويستفيد من معطيات الحاضر ويستشرف المستقبل لأننا نريد إعداد أبنائنا لزمان غير زماننا نحن، ولذلك لا بد من تزويدهم بالمهارات والمعارف الحديثة مع غرس قيمنا وأخلاقنا التي تقوم على موروث، فكري وثقافي، ينبذ التعصب للقبيلة والجهة، ويحث على تكوين أمة موحدة ومعافاة من مثالب الجهل والتعصب. فكما أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش سوياً وهو منفصل عن أصوله كهشيم تذروه الرياح، كذلك لا يمكنه أن يعيش بلا أمل وطموح يدفعه للعمل والاجتهاد والأخذ بأسباب التقدم والرقي كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وهذه الرؤية هي التي تحدد حاضرنا وطريقنا نحو المستقبل. ومن هنا تأتي أهمية الربط في مناهجنا بين الأصالة التي تجسّد جذورنا القيمية والثقافية والأخلاقية، والمعاصرة. وهذا لا يتحقق إذا لم نستفد من تجارب الرعيل الأول، واضعين في الاعتبار كل ما تمر به البلاد من حالة اضطراب، مرده الأساس إلى ضعف مخرجات التعليم، الأمر الذي زاد من الفاقد التربوي حتى صار وقوداً يغذي التيارات الجهوية والعنصرية والقبلية التي تحمل السلاح في وجه الدولة الآن!! دعونا نحقق ما ذهبنا إليه في صدر هذا المقال، من أن المعلم كالغيث، ونستفيد من تجارب كبارنا التي أثبتت نجاحها حتى نعيد لتعليمنا رونقه، ونغرس في الأجيال القادمة قيم الوفاء والإخاء والوطنية، وتلك هي ذروة سنام التربية.