توقعات بضغوط جديدة على الخرطوم تُفضي إلى قمَّة جديدة..جوبا تتوهَّم أن نفطها بمثابة ضخ الدم في شرايين نظام يلفظ أنفاسه الأخيرة أحمد يوسف التاي قبل «24» ساعة من قرار الرئيس البشير الذي قضى بإغلاق أنبوب نفط الجنوب عبر الأراضي السودانية، وإعلان التعبئة العامة والاستعداد للمواجهة العسكرية، أشرنا في تحليل سياسي في هذه المساحة إلى أن معظم معطيات الواقع السياسي المتوتر بين الخرطوموجوبا تشير إلى أن الأيام القليلة المقبلة ربما تشهد مواجهات ساخنة على الأصعدة السياسية والدبلوماسية وملاسنات إعلامية وتصعيدًا ربما يُفضي إلى مواجهة عسكرية في المناطق الحدودية المتنازَع عليها بين الدولتين كأبيي النفطية، وتركاكا التجارية، وحفرة النحاس وكفيّ كنجي في جنوب دارفور، ومنطقة سماحة الواقعة شرق دارفور، ولعل ما يعزِّز هذه الفرضية هو تباطؤ حكومة الجنوب في سحب قواتها حسبما هو متفق عليه بين البلدين من خلال بروتوكولات التعاون الأمني التي تم التوقيع عليها في العاشر من مارس الماضي بالعاصمة الإثيوبية أديس أبا با.. كثير من المؤشرات والمعطيات تعزِّز بشكل واضح سيناريو المواجهة بين السودان وجنوب السودان، ولا بأس أن تجري هنا وهناك بعض التحركات الدولية والإقليمية التي في ظاهرها التهدئة ومبادرات التوسط وفي باطنها تعميم جسد الحكومة السودانية بالاسترخاء الأمني لتكون هذه المرة الصفعة قوية ومؤلمة وغير محسوبة من جانب الجار الشرير. تنفيذ فوري لقرارات الرئيس: الآن وبعد ساعتين فقط من قرارات الرئيس البشير شرعت الحكومة أمس «الأحد» عمليًا في تنفيذ القرار الرئاسي القاضي بإغلاق أنبوب نفط دولة جنوب السودان، عبر أراضي السودان، وأبلغ وزير النفط عوض الجاز الشركات العاملة في مجال نفط الجنوب بالقرار رسميًا، فيما شرعت قيادة الدفاع الشعبي في ترتيبات فتح معسكرات التدريب للمتطوعين من الشباب المجاهدين، تنفيذًا وتفاعلاً مع دعوة الرئيس البشير الشبابَ إلى الانخراط في صفوف الجهاد بعد أن وجه بشكل حاسم بفتح معسكرات تدريب القوات المسلحة والدفاع الشعبي. الشروع في فتح المعسكرات: وفي أول تفاعل مع قرارات الرئيس وإعلان التعبئة العامة أعلنت قيادة الدفاع الشعبي استعدادها التام لإنزال توجيهات المشير عمر البشير رئيس الجمهورية بفتح جميع معسكرات الدفاع الشعبي إلى أرض الواقع مؤكدة جاهزيتها الكاملة للانتشار في كل بقاع السودان دفاعًا وصونًا لمقدرات الوطن. وجاء في الأخبار أن القائد العام لقوات الدفاع الشعبي أكد أن منسوبي الدفاع الشعبي الآن هم على الخطوط الأمامية في العمليات للدفاع عن البلاد ضد ما أسماها عمليات الغدر والخيانة التي تجري في عدة مناطق، وأعلن عن إصدار التوجيهات لكل فروع وإدارات الدفاع الشعبي بالمركز والولايات لفتح المعسكرات والعمل المكثف لإعداد القوات بصورة جيدة تنفيذًا لتوجيهات رئيس الجمهورية. وقال إن قوات الدفاع الشعبي الآن تدرك تمامًا حجم الاستهداف والتآمر على البلاد متعهدًا بأنها ستعمل على صد أي تهديد يواجه السودان وستعمل على تأمين المناطق على الحدود مع جنوب السودان وستعمل على التصدي لمحاولات دولة جنوب السودان زعزعة استقرار البلاد. وعلى الصعيد ذاته أعلن المنسق العام لقوات الدفاع الشعبي عبد الله الجيلي عن توجههم الفوري لتنفيذ توجيهات الرئيس البشير وتجهيز القوات من المجاهدين للقتال لمجابهة التربص والاستهداف الذي يواجهه السودان، مؤكدًا استمرار الدفاع الشعبي في دعم ومساندة القوات المسلحة في كل مناطق العمليات والجبهات القتالية. وقال الجيلي إن المرحلة المقبلة ستشهد تطوراً كبيراً وتوسعًا شاملاً في المعسكرات وبرامج عمل الدفاع الشعبي لاسيما في تدريب وتأهيل المجاهدين عبر الدورات المتقدمة لرفع مقدراتهم القتالية وذلك لمواجهة الاستهداف الذي يتعرض له السودان. فيما أكد عددٌ من منسقي الدفاع الشعبي بالولايات والمركز بحسب وكالة الأنباء الرسمية «سونا» أن توجيهات الرئيس البشير بفتح جميع معسكرات إعداد وتجهيز قوات الدفاع الشعبي تأتي في إطار إحياء شعيرة الجهاد ومواجهة الاستهداف الذي يتعرض له السودان وتأمين الحدود مع دولة جنوب السودان والعمل على منع دولة الجنوب من تصدير الحرب إلى داخل السودان. الاستعداد للمواجهة: وتأتي هذه الخطوات المتلاحقة بعد ساعتين من قرار الرئيس مما يعني أن الساحة السياسية باتت مهيأة لكل الاحتمالات بما في ذلك سيناريو المواجهات العسكرية وذلك في إطار ردة الفعل العنيفة إزاء استمرارحكومة جوبا في دعم متمردي الجبهة الثورية، وقطاع الشمال، ولعلَّ ما يعزِّز ذلك هو حديث الرئيس البشير الذي أكد من خلاله أن هذا القرار لم يُتخذ على عجل ولكنه جاء بعد دراسة متأنية، وإدراك شامل لمعرفة تبعاته، مما يعني بالضرورة أن الحكومة اتخذت هذا القرار منذ وقت مبكر ربما بعد الهجوم على أبو كرشولا، والتأكد من استمرار دعم حكومة الجنوب للجبهة الثورية وقطاع الشمال. نظام متهالك: وتشير التوقعات بحسب المعطيات وقرائن الأحوال أن الخرطوم شرعت في إيجاد بدايل لنفط الجنوب عندما تبين لها أن جوبا تنظر لبترولها المتدفق عبر الأراضي السودانية بمثابة ضخ «الدم» في شرايين نظام متهالك يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو هكذا بدت صورة الحكومة السودانية بالنسبة لجوبا أو هكذا صُوِّر لها... وتصبح الأسئلة المحورية التي بحاجة إلى إجابة هي: هل صحيح أن بترول الجنوب بات بمثابة الرئة التي تتنفس بها الخرطوم؟ وإلى أي مدى يمكن أن يكون هذا السلاح فاعلاً لإسقاط الحكومة السودانية؟ وأيهما أكثر تضررًا من هذه الخطوة الخرطوم أم جوبا؟ وما هي جدوى المناورة والتاكتيكات السياسية بين النظامين في الخرطوموجوبا بملف «النفط»، وعلاقة القوى الكبرى بهذا الملف؟. رسائل حاسمة: وبإلقاء نظرة فاحصة تأخذ في الاعتبار التطورات الأخيرة التي سبقت الإشارة إليها، يدرك المراقب السياسي أن الرسالة الأولى الحاسمة التي أراد الرئيس البشير تبليغها لجوبا هي أن سلاح النفط لم يعد فاعلاً لابتزاز الخرطوم وتخويفها وتهديدها، وأن السودان يمكنه استباق دولة الجنوب إلى هذه الخطوة، طالما أنه يجد البدايل المناسبة ويمكنه الاستغناء عن رسوم تدفق نفط الجنوب عبر أراضي السودان، دون تأثير كبير على الاقتصاد السوداني، وطالما أنه يدرك تمامًا تبعات هذا القرار وتأثيره فلا خوف من هذه الخطوة... ثمة رسائل أخرى أراد الرئيس البشير بعثها إلى المجتمع الدولي تتعلق بالحوار مع قطاع الشمال الذي يدعمه مجلس الأمن الدولي بالقرار «2046». حيث تشير الرسالة إلى مبررات الخرطوم لوقف التفاوض مع القطاع المدعوم من جوبا من خلال تدفق النفط عبر الأراضي السودانية، أي أن الخرطوم لها مبررات منطقية وموضوعية لعدم تنفيذها قرار مجلس الأمن في هذا الصدد، ولعل في خطوة البشير تلك محاولة قوية للفت أنظار العالم إلى خطورة ما حدث من جانب جوبا... مناورات خشنة: وتأسيسًا على جملة من المعطيات يمكن الإشارة إلى أن ملف النفط بين البلدين أصبح بمثابة مساحة للمناورات والتاكتيكات السياسية، ولعل ذلك يبدو من خلال الملاحظات التالية: أولاً: جاء خطاب الرئيس البشير عشية تحرير أبو كرشولا وقد تضمن رسالة حاسمة لجوبا مفادها: إن لم توقفوا دعمكم لقطاع الشمال، والجبهة الثورية سوف نمنع مرور بترولكم عبر أراضينا. ثانيًا: ردة الفعل لخطاب البشير من جانب حكومة جوبا جاءت سريعة في إطارالمناورة والتاكتيك اللذين أشرنا إليهما، وذلك عندما شرعت عمليًا وبعد «48» ساعة فقط من تهديدات البشير بمنع مرور النفط في اتفاق مع شركة «توتال» الفرنسية لبناء خط ناقل للبترول عبر ميناء لامو. وحديث البشير الذي أشار فيه إلى إن السودان سيمضي في قراراته المدروسة، ولن يهمه أن يتم تصدير نفط الجنوب عبر كينيا أو أي دولة أخرى. ثالثًا: مهدت الحكومة السودانية الطريق لوضع تهديدات الرئيس البشير موضع التنفيذ، وذلك بالتأكيد على أن جوبا مازالت تقدم دعمها للمتمردين ولم ترعوِ لتحذيراتنا. رابعًا: ثم جاء القرار مسبوقًا بتلك الإرهاصات التي سبقت الإشارة إليها، وهو إغلاق أنبوب نفط الجنوب وإعلان التعبئة العامة في أوساط الجيش والدفاع الشعبي وقوات الأمن للمواجهة العسكرية، لأن إلغاء الاتفاقيات التي هدد بها نائب الرئيس الدكتور الحاج آدم هو الحرب لا محالة. خامسًا: يبدو واضحًا أن رسالة جوبا للخرطوم في ميدان المناورات تعني أنها تريد حرق أو انتزاع كارت النفط من أيدي الخرطوم والاستغناء عن خدماتها والاستعداد للمواجهة، كما تشير لذلك خطوتها بالاتفاق مع شركة «توتال» الفرنسية باعتبار أن نفط الجنوب هو الحبل السري الذي يتغذى به النظام في الخرطوم كما تظن جوبا وفقًا لتقديراتها الخاطئة وتريد أن تبطل مفعول السلاح الذي تظنه الخرطوم فاعلاً في مواجهة جوبا، وكما أشرنا من قبل فإنها أي جوبا بلا شك لم تعد تعبأ بالمناشدات الإقليمية والدولية غير الجادة لوقف دعم خصوم الخرطوم، ولن تأبه باتهامات الخرطوم لها في هذا الصدد طالما أن هذه الخطوات تقود في خاتمة المطاف إلى إسقاط النظام في السودان وهو أمر متفق عليه بين القوى الكبرى التي لا ترغب في استمرار هذا النظام، ولا شك أن هذه القوى لا تبخل على تمويل إنشاء الخط ودعم موازنة الجنوب إلى حين اكتمال بناء الأنبوب. ماهي الخطوة المقبلة: بالقاء نظرة موضوعية لهذه التطورات يمكن للمراقب السياسي أن يتوقع حدوث عدة سيناريوهات أبرزها على الإطلاق: « أ» تحرك دولي تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت ولا تزال يسيل لعابها على نفط الجنوب، هذا التحرك يقوم على الضغط على الخرطوم تصاحبه زيارات متواترة من «أمبيك» الذي تم تمديد تفويضه. «ب» ويعزز النقطة أعلاه حديث سفيرة أمريكا في جوبا حول قدوم عدد من كبرى الشركات الأمريكية للاستثمار في نفط الجنوب، واهتمام واشنطون بهذا الملف. «ج» وكنتاج طبيعي للضغوط المتوقعة يُتوقع أن يتم لقاء قمة بين الرئيسين بأديس، تمهيدًا لمفاوضات إنعاش «المصفوفة». «د» وتأسيسًا على النقطة أعلاه يُتوقع أن تجلس الحكومة مع قطاع الشمال، على أن تتم التسوية بشكل كامل دون تجزئة باعتبار أن التفاوض مع القطاع يمكن أن يحقِّق ما تعجز عنه جوبا.