اسمه بالكامل عم إبراهيم.. وبرغم الفقر والوجه الشاحب يتدلى كرش مفاجئ من بين البالطو المهترئ.. وبينما يعتبر الكرش في الأوساط الراقية (مرضًا) علاجه الرجيم والرياضة.. يرى فيه التجار دليلاً (ملموسًا) على نعمة يُرجى دوامها، أما الفقراء فتظل كروشهم (أوراما) يحملونها بلا سبب واضح. وبالنسبة لعم إبراهيم فقد أفسد عليه الكرش الوقح كسوة كاملة أعطاها له أطباء المستشفى في العام الماضي. وتقول السجلات إن العامل محمد إبراهيم وظيفته (عامل نظافة) بمرتب عشرين جنيهًا وثلاثة قروش لا غير.. ولأن عم إبراهيم رجل طيب وبشوش، ولأنه كان (نظيفًا) والنظافة أهم شيء فقد اختاره الأطباء لصنع القهوة والشاي بدلاً من عم صالح الذي أُحيل للمعاش. قد تصبح الحياة محتملة (أحيانًا).. فعندما يتفرغ عم إبراهيم لعمله الجديد (القهوة) و(الشاي) يكسب ما يزيد على ضعف مرتبه الأصلي.. يستطيع أن يدخّن كما يريد.. أن يشتري لأولاده أكبرهم في العاشرة جلاليب وأحذية.. بل استطاع عم إبراهيم حدث هذا مرتين أن يستقل تاكسيًا بالنفر إذا تأخر عن موعد العمل. ويعدّ عم إبراهيم على أصابعه الغليظة ((خمسة أعوام من الستر)) والستر ألا يتسوّل الإنسان.. ((نعمة نحمد الله عليها)).. كان عم إبراهيم يحرص على صلاة الجمعة.. وتعوَّد أن يذهب إلى الزاوية نظيف البدن والملبس طيب الرائحة. وعندما تبدأ الخطبة.. كان عم إبراهيم يُدخل رأسه بين يديه ويخشع.. وذات يوم بعد خطبة حارة عن الزكاة أحسّ إبراهيم بقلق مذنب ثم قرر أمرًا في نفسه.. وتعوّد بعد ذلك أن يختار مريضًا (مُعدمًا) من مرضى المستشفى ويصنع له القهوة بالمجان. كان عم إبراهيم رجلاً طيبًا. تعوّد خطيب الزاوية أن يقول ((دوام الحال من المحال)). منذ بضعة شهور تسلم العامل محمد إبراهيم أمرًا (إداريًا) بنقله للعمل في بوابة المستشفى، وقال له رئيس العاملين وهو يسلّمه الأمر ((مبروك يا إبراهيم.. لقد أصبحت موظفًا بالأمن)).. وأحس إبراهيم بهلع غامض.. ويستمر المشهد فيتسلّم إبراهيم مِعطفًا من الصوف الأسود وحذاء عسكريًا ضخمًا، ويقف كل يوم على بوابة المستشفى يمنع الزوار من الدخول، ويحيّي الأطباء الداخلين في سياراتهم. وخلال الشهر الأول ألحَّت على إبراهيم رائحة الشاي والماء الساخن.. وكان لا بد أن يتسوَّل فأصبح يُكثر من الحديث عن مرض أبنائه وتخلفهم في الدراسة.. وابتسامات الأطباء فاترة ((ربنا يعينك يا عم إبراهيم)) وفي الشهر التالي.. ذهب إبراهيم إلى رئيس العاملين وأنهى توسله بكلمات ثلاث: ((أريد أن أرجع)).. وفى هدوء تمتد يد رئيس العاملين لترفع النظارة عن عينيه ويخرج صوته (لعينا) ((هذا أمر إداري يا إبراهيم)).وتغيّر إبراهيم كثيرًا في الشهر الثالث.. لم يعد يحيّي أحدًا من الأطباء الداخلين في سياراتهم.. تعوّد أن يجلس على مقعده أمام البوابة، ويحكم قفل معطفه الأسود واكتست ملامح وجهه جمودًا، وصارت نظراته قوية لا تلين. ويقول الذين حضروا المشهد إن السيدة العجوز كانت تريد دخول المستشفى لزيارة ابنها المريض.. ولأنه لم يكن مسموحًا بالزيارة في تلك الساعة من الصباح.. ولأنها ألحت عليه كثيرًا.. فقد قام عم إبراهيم واقترب منها.. ونظر إليها مليًا.. ثم انهالت ضرباته.