لا ندري لماذا صدَّق الحزب الحاكم دعوة واشنطون للدكتور نافع علي نافع لزيارة واشنطون بغرض التباحث ومناقشة قضايا العلاقات الثنائيَّة وتطوُّرات الأوضاع في السودان؟ ووجدت الدعوة قبولاً سريعاً لها في الخرطوم، وسال مدادٌ كثير حولها وانداحت تصريحات من مسؤولي المؤتمر الوطني ترحيباً وربما تلهفاً لإتمامها.. وقبل أن يتأهَّب الدكتور نافع ووفدُه للسفر، جاء قرار الإدارة الأمريكيَّة عبر خطاب للقائم بالأعمال الأمريكي بالخرطوم بناء على توجيه من رئاسته في الخارجيَّة الأمريكيَّة يُفيد بإلغاء الزيارة أو تجميدها كما أعلن المؤتمر الوطني رسمياً.. وليس هناك خلاف في العرف الأمريكي ما بين التجميد والإلغاء.. والسبب المُعلَن، ليس هو الحقيقة، فمبرِّرات واشنطون ودواعي إلغاء الزيارة على خلفيَّة وقف تصدير نفط الجنوب بتوجيه من الرئيس البشير، لا معنى لها، فهناك مسوِّغات أخرى لإلغاء الزيارة وحيثيَّات كثيرة اكتنفتها، وجدت الإدارة الأمريكيَّة ممثلة في الخارجيَّة، مشجب العلاقة المتوترة بين الخرطوم وجوبا، لتعلِّق عليها جبَّة الإلغاء أو التجميد البالية! ومعروف أن الكونغرس الأمريكي وجماعات الضغط في واشنطون وأعداء السودان، كانوا هم وراء إجهاض الزيارة، خاصة أنَّ الخارجيَّة الأمريكيَّة لم تقوَ على مواجهة الحملة ضدها، وتعاونت سمانثا باور مندوبة واشنطون في الأممالمتحدة ومستشارة أوباما السابقة في البيت الأبيض، وسوزان رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي وكل الناشطين ضد السودان، ووجهتا ضربة قاضية لأي تقارب سوداني أمريكي.. لكن في الضفة الأخرى من هذه المسألة، يجب ألّا يعلِّق المؤتمر الوطني أو حكومتنا، أي آمال في تحسُّن العلاقة مع الولاياتالمتحدة الأمريكيَّة، وكثير من المسؤولين عندنا لديهم ذات الوهم الذي عاشه الرئيس المصري محمد أنور السادات الذي كان سبب إقدامه على توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل العدو الإستراتيجي لبلاده، هو اعتقاده وقناعته بأن «99%» من أوراق اللعبة في يد أمريكا كما قال في خطاب شهير له قُبيل كامب ديفيد.. فمن غير المحتسب والمأمول أن يكون الحضن الأمريكي، دافئاً لارتماءات لاهثة عليه، وهكذا تقول التجربة في دول العالم الثالث، فواشنطون تريد أن يكون الضيف إما خاضعًا وتابعاً أو ترفضه... ومنذ فترة ليست بالقصيرة ظلت الحكومة تراهن على أن تحسُّن العلاقة مع أمريكا يكفينا شرورًا كثيرة ويساعدنا في معالجة الكثير من القضايا والملفَّات الشائكة، وكل ذلك تبخَّر في الهواء، لأنَّ الإدارة الأمريكيَّة الحاليَّة أو اللاحقة وكما كانت السابقة، لن تُقدم على أي خطوة جادَّة لتطبيع العلاقات معها، وغير حريصة على ذلك.. فالخلاف مع أمريكا خلاف عميق له بُعده الإستراتيجي والحضاري، ومن الصعب تجسيره بالأقوال أو الزيارات أو خفقان رايات الأماني، ونذكر أنَّه في عهد المبعوث الأمريكي السابق إسكوت غرايشون، كان هناك حماس من المبعوث ومن الخرطوم لطي ملفَّات الخلاف وُضعت عملية ممرحلة لذلك، ويبدو أنَّ المبعوث نفسه كان متفائلاً أكثر مما يجب وتجاوز تفويضه في الغالب، فوُجِّهت له ضربة قاضية أبعدته عن المسرح السياسي تماماً وقبع في ظلام النسيان.. فالتوجُّهات الأمريكيَّة وتخطيطها لإعادة ترتيب المنطقة وهذا الجزء من إفريقيا وجنوب الوطن العربي، ليس الوارد فيه، تحسين العلاقات مع السُّودان وتخليصه من مشكلاته ونزع الأشواك من جلده وقدميه! والكل يعلم ماذا تريد واشنطون من إضعاف السُّودان وسعيها لمنعه من لعب دور رئيس ومهم في محيطه الإقليمي إذا ظلَّت حكومة يسيطير عليها المؤتمر الوطني تُديره وتحكمه! على السُّودان البحث عن سبل تكفيه الشر الأمريكي، وتعزيز توجُّهاته في تقوية العلاقات مع حلفائه الدوليين وتحسين علاقاته في جواره العربي والإفريقي والاستغناء تماماً عن أمريكا مع أخذ الحذر منها ومن خبائثها ودسائسها، فتخويفها لا يمكن أن يُفزع السودان ويصرعه، ولا الاقتراب منها سيكون طوق نجاة وزورقًا يُنجينا من الراهن الذي نعيشُه.. فلا رهان مع الأفاعي!