في مصر حظر الرئيس جمال عبد الناصر أغنية «البوسطجي»، حيث كان والده المرحوم عبد الناصر حسين خليل يعمل «بوسطجياً»، أي موظف يقوم بإيصال الرسائل البريدية إلى أصحابها. أراد الرئيس جمال عبد الناصر أن يسدَّ باب الذرائع وباب «التَّرْيقَات» غير المناسبة. في السودان، في عقد السبعينيات، أثارت أغنية «ما دوّامة» إنزعاجاً سياسياً، فحظرت الإذاعة السودانية الأغنية الشهيرة، ولم تعد تبثَّها. أغنية «ما دوّامة» كان يغنيها الفنان الراحل إبراهيم موسى أبَّا. جاء حظر الأغنية في أعقاب المظاهرات الطلابية في ثورة شعبان أغسطس 1973م. «ما دوّامة.. لِيك وَلَيْ.. الدنيا ما دوامة». من لا شيء حوّلت الوساوس الأغنية البريئة إلى شعار سياسي، يرعب المفتونين بحبِّ البقاء في السلطة. ثم انتشرت بعدها الوسوسة السياسية لتشمل أغنية «الساقية» للفنان حمد الريح، من كلمات الراحل عمر الطيب الدوش، شاعر «الودّ» و«بناديها». من حيث لا يدري أحد أصبحت «الساقية» تثير هلعاً. كانت الوساوس «المايوية» تتخيّل أنّ أحد مقاطع الأغنية يمكن تحويره ليصبح هتافاً يقول «رأس نميري مطلب شعبي»! الوساوس التي حظرت «ما دوّامة» كانت تداعيات من الهَوَس الشمولي، الذي ضرب السودان في نهاية الستينيات. حيث أثارت «الجماعة العلمانية المسلحة» الهلع والرّعب، وهي تهدِّد كلَّ من كان خارج حزبها. الناس لا يزالون يذكرون الوسوسة العلنية للجماعة العلمانية المسلحة، وهي تسير حافية، على يديها دماء الضحايا من خصومها، في ود نوباوي والجزيرة أبا ووادي سيدنا، وهي تضرب على صدرها وتنشد: إنت يا مايو الخلاص... يا جداراً للرّصاص... يا احتفالاً بالقصاص... من عدوِّ الشعب في كلّ مكان... كانت طواويس الجماعة العلمانية، تتمايل نَشوَى على كرسي السلطان، وكان «الذي يوسوس» يعزف لها على أوتار الخلود وملكٍ لا يَبْلَى. في إطار «احتفال القصاص» الدموي، قتلت الجماعة العلمانية المسلحة الإمام الهادي المهدي، والدكتور محمد صالح عمر، و«توفي» الزعيم إسماعيل الأزهري في السجن. كان النعي الرسمي الذي أذيع «توفي إسماعيل الأزهري الذي كان يعمل معلماً بوزارة التربية والتعليم». هكذا كانت نهاية «أبو الاستقلال» في السجن، وكان ذلك نعي زعيم الحركة الوطنية! في إطار احتفال القصاص من عدوِّ الشعب في كل مكان، قتلت الجماعة العلمانية المسلحة رئيس تحرير صحيفة «الناس»، الأستاذ محمد مكي. كان الراحل محمد مكي مرشح حزب الأمة جناح الإمام الهادي في دائرة حلفا. في نهاية الستينيات، لم تحظر الوساوس السياسية صحيفة «الناس»، كما حظرت لاحقاً في السبعينيات أغنية «ما دوّامة»، ولم تصادر الوساوس السياسية الصحيفة, بل صادرت حياة رئيس التحرير. قتل محمد مكي في ظروف غامضة، واختلفت الروايات حول طريقة تصفيته. إحدى تلك الروايات أن محمد مكي تمّ اختطافه من بيروت، ونُقل إلى الخرطوم حيث تمّ اعدامه سرّاً في وادي سيدنا شمال أم درمان. أين هربوا؟.. أين هم الآن..؟ الموسوسون.. وزمرة الاستعلاء الحزبي والقَتَلة؟ أين دفنوا محمد مكي؟.. لا اعتراف، ولا اعتذار، بل صمت جبان. لماذا لا يُفتح تحقيق، والعديد من العارفين لا يزالون على قيد الحياة، بل بعضهم يتبوّأ بعض المناصب! تلك صفحات حزينة من اللا تسامح السياسي في السودان، سببها سيطرة الوسواس القهريّ على السياسيين والأحزاب والجماعات والحكومات. أيضاً من الصفحات الحزينة في كتاب «العصاب القهري» والوسوسة وعدم التسامح السياسي، ما كتبه مثقف يحمل شهادة «خلو طرف» من الجماعة العلمانية المسلحة «الحزب الشيوعي»، حيث نشر مقالاً ذكر فيه أنه شاهد بعينيه زعيم الجماعة العلمانية و«الأب الروحي للمثقفين والفنانين«يخلع» مركوبه»، ويضرب به أحد مثقفي الحزب المشاهير، السيد(X). حدث ذلك عندما وسوست نفس الزعيم للزعيم، بأن مثقف الحزب ينتقص من مكانته. كان ذلك المثقف الشهير حينها، عندما ضربه الزعيم ب «المركوب»، في حالة نفسية سيئة، تستدعي تفهُّمه والحنوّ عليه، بدلاً من ضربه علناً أمام الناس ب «المركوب». أيضاً كان الذي يوسوس في كامل لياقته، عندما صدرت القرارات بمصادرة ممتلكات وأموال كل أثرياء السودان، بالميلاد أو التجنُّس، وطُويت صفحات غالية من قصص النجاح والنماذج الرائعة. تتمتع الوسوسة السياسية، أو الوسواس القهري في السياسة السودانية، بحرّية التنقّل من اليسار إلى اليمين، حرية أن تحظر و«تُمَرْكِب» أي تضرب بالمركوب، وأن ترهب وتصادر وتقتل وتغتال. تحظر الأحزاب والحريات والأغاني... «ما دوّامة» و«الساقية» و«الوكر المهجور»... وغيرها. وتُمَرْكِب المثقفين أي تضربهم ب «المركوب»، وترهب الرأي الآخر... وتصادر الأموال... أموال عثمان صالح وكافوري ومحمد أحمد عباس وصادق أبو عاقلة وكنتوميخالوس وسركيس ازمرليان ومرهج... وغيرهم من ضحايا الهوس الشيوعي... وتقتل الإمام الهادي المهدي... وتغتال محمد مكي... ولكن... ما دوّامة! لكن أعجوبة الأعاجيب السياسية هذه الأيام أن أحزاب الهوس الحزبيّ الشموليّ في نهاية الستينيات ورموزها، رموز الحظر والمركبة والإرهاب والاغتيال وتأميم الصحف والفصل من الخدمة المدنية، «يعطِّرون» مساءات الخرطوم السياسية هذه الأيام، بتصريحاتهم اليومية عن الحريات السياسية والتحوّل الديمقراطي! بالتأكيد تلك الأحزاب الشمولية بتهظِّر... الكاميرا بت صوِّر... والماسورة بت نقِّط... والأحزاب الشمولية بِتْ هَظِّر!