أطل علينا شهر رمضان المعظم الذي فيه تتنزل البركات وتكثر الخيرات وتصفد الشياطين وتسمو النفوس في صفاء ونقاء روحي. وهو شهر التكافل والتراحم والصدقات الخفية بلا من أو أذى، وهو شهر التواصل، إذ يتم وسط الغالبية العظمى الإفطار خارج المنازل في مجموعات تضم الأهل والجيران، وفي هذا تقوية للتواصل والعلاقات الحميمة الودودة، وتتجلى الشهامة والنخوة السودانية في الإفطارات الجماعية التي يقيمها سكان القرى والمدن التي تقع على الطرق بإيقافهم للمركبات العامة أو الخاصة ليتناول العابرون والركاب الإفطار معهم «والقرى الواقعة على شارع الخرطوم مدني خير شاهد على ذلك». ونحن نتضرع لله سبحانه وتعالى في هذا الشهر الكريم الذي يكثر فيه التهجد وتلاوة القرآن الكريم أن يعم السلام والوئام ربوع البلاد، وأن تصفو النفوس ويعم الهناء والرخاء ويزول الفساد والظلم والجشع «والعافية درجات»، وتعلو رايات العدالة الاجتماعية فعلاً لا قولاً. المحطة الثانية: تقويم المسيرة نأمل أن تكون في أيام الشهر العظيم وقفات للتأمل والمراجعة. وقبل أيام من حلول هذا الشهر الكريم جرت أحداث دموية مؤسفة في مدينة نيالا، ونرجو أن يسود صوت العقل على جنوح وجموح العاطفة، وأن تهدأ النفوس وتعالج كل القضايا باستئصال مسببات الصراعات من جذورها منعاً لأية مواجهات وصدامات دموية أخرى، والمسكنات الوقتية لا تجدي وينبغي معالجة المرض لا العرض. وهناك ثمة ملاحظة وهي أن كثيراً من ولايات السودان تشهد منافسات وتحرشات وصراعات مردها لحظوظ النفس الفانية والطمع والأنانية وتضخيم الذات، وهي صراعات حول السلطة والجاه، وبعضهم يتطلع لمواقع أرفع، وعين كل منهم على موقع الوالي في الانتخابات القادمة. والشواهد على ذلك كثيرة، وأصبح الكثيرون يدورون حول الأفراد النافذين غافلين عن القضايا والهموم العامة، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن ولاية الجزيرة تعاني من هذا الداء الوبيل، وإذا تركنا موضوع مشروع الجزيرة على أهميته جانباً، وقد حارت البرية في أمره، فإن ولاية الجزيرة ظلت منذ أمد بعيد في صراعات مستمرة «تطفو أحياناً للسطح» حول المواقع، وأحياناً تتداخل السلطات، وهم يختصمون الآن حول كيفية إدارة وتدوير المال في بعض المصالح والوزارات، وهل تكون لوزارة المالية الولائية الولاية الكاملة على المال العام أم أن من حق أية جهة أخرى تجنيب بعض الأموال لتصرفها على أشياء تحددها هي، أم أن من حق الآخرين أن تنفذ لهم المشروعات المحددة المتفق عليها شريطة أن تكون الإيرادات والصرف بواسطة وزارة المالية. وقد طفحت الصراعات على السطح والناس في شغل شاغل عنها لأنها أضحت مسرحية مكررة مملة، ويجب أن يتدخل المركز لوضع الأمور في نصابها وينصرف الناس عن هذه الصغائر لما هو أهم منها، وفي الاجتماع الاخير الذي عقده مجلس شورى المؤتمر الوطني أدان المشير البشير رئيس الجمهورية ورئيس الحزب العنصرية البغيضة والصراعات القبلية التي اشتد أوارها واشتعلت نارها، وبالطبع أن الجمعيات والروابط القبلية إذا كانت من أجل التعارف والتآلف والتكاتف والتكافل والتواصل الحميم ومساعدة المحتاجين وما إلى ذلك من مشاركات ومساهمات في المناسبات الاجتماعية ودعم الخدمات، فلا غبار عليها، ولكنها بكل أسف حادت عن خطها المستقيم واستغلها البعض استغلالاً بشعاً واتخذوها وسيلة للوصول لمقاعد السلطة وجاهها، وفي هذا قمة الانتهازية والوصولية. ومنذ فجر الإنقاذ وأيام التجمعات لأداء البيعة أخذ البعض يتجمعون ليعلنوا أن القبيلة الفلانية أو القبيلة العلانية قد بايعت، ويمكن أن نطلق على ذلك «المبايعات القبلية»، وأطلت بعد ذلك المحاصصات السلطوية على أسس قبلية، وأدى هذا لصراعات حتى داخل فروع وخشوم القبيلة الواحدة، والمجال لا يتسع للخوض في كل التفاصيل. ولكن من الغرائب والعجائب أن بعضهم أخذوا يتاجرون باسم قبائلهم ويساومون ويزايدون بها، ولم يبق لهم إلا أن يحملوا أجراساً ويقيموا مزاداً علنياً مفتوحاً يرددون فيه بصوت مرتفع «قبيلة للبيع يا مسؤولين أو يا مشترين، ويمكن أن يكون الثمن مناصب أو مالاً أو الاثنين معاً» وبلغت المنافسات درجة نشر البعض بياناً في الصحف باسم قبائلهم ويعلنون قيادتهم لها، وبعد أيام تصدر بيانات مضادة لهم يصدرها آخرون يعلنون أنهم هم القادة وأن غيرهم انتحل صفة القيادة، والغريب أن مصدري هذه البيانات أو تلك تسبق أسماءهم ألقاب علمية أو مهنية رفيعة «برفيسور، دكتور، مهندس، محامٍ وجنرال كبير ... الخ»، والمعروف أن الادارة الأهلية حلت في كثير من الولايات قبل أكثر من ثلاثة واربعين عاماً، وحلت محلها محاكم شعبية، ومع ذلك فإن بعضهم يحملون بطاقات صدقتها لهم الحكومة تحمل صفة عمدة أبناء القبيلة الفلانية أو العلانية بالعاصمة. وإن بعض الوزراء على المستوى الاتحادي أو الولائي قد زكاهم التنظيم، ولم يكتف بعضهم بذلك ولجأو لمناطقهم مع أنهم من عامة أبناء القبيلة ولا يتمتعون بأي تميز أسري، ولكنهم أرادوا استغلال السلطة ودفعوا آخرين لإقامة مهرجانات تكريم لهم ليثبتوا أنهم أولاد قبائل، فتم إعفاؤهم وعادوا إلى الظل مرة أخرى. أما النزاعات القبلية بين الزراع والرعاة في بعض الولايات فقد كان الحكماء والعقلاء يحلونها حلاً أهلياً وفق الأعراف والتقاليد المتعارف عليها، وكانت تعتبر سحابة صيف عابرة، ولكن الأمر اشتد واحتدم في السنوات الأخيرة، وأخذت الصراعات طابعاً عرقياً وعنصرياً بغيضاً أدى بكل أسف لمواجهات دموية فقدت فيها أرواح عزيزة من كل الأطراف المتحاربة، وعلى الإنقاذ أن تبذل قصارى جهدها لإعادة هذا المارد لقمقمه، وكل المنافسات والصراعات القبلية بكل مستوياتها التي ذكرتها آنفاً هي مشكلات تفاقمت بسبب ضيق أفق شريحة من الإنقاذيين الذين فتحوا المجال للمحاصصات القبلية للسلطة والجاه «والتسوي بي إيدك يغلب أجاويدك» ولكن إذا كانت الرغبة صادقة في إيجاد معالجات وإعادة الأمور لنصابها الطبيعي فلا مستحيل تحت الشمس. المحطة الثالثة: البرادعي والرفض الشعبي لو كانت دائمة لما وصلت إلينا كما قال إمام المتقين سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ولن يظل أحد خالداً في الحكم إذا كان رئيساً أو ملكاً أو أميراً أو وزيراً.. إلخ، وكما كان يردد الفنان إبراهيم موسى أبا «ما دوامة»، وبالطبع أن لكل بداية نهاية. وفي مصر صرح أخيراً الرئيس المخلوع مبارك بأن الأمريكان طلبوا منه إبان الثورة ضده أن يتنازل عن الحكم للبرادعي، ولكنه رفض بدعوى أن الخيار يحدده الشعب، وبعد الأحداث والانقلاب المؤسف الأخير قرر الانقلابيون تعيين البرادعي رئيساً للوزراء، والمؤكد أن هذا يمثل رغبة أمريكا وإسرائيل، ولكن هذا القرار أحدث انقساماً وسط الانقلابيين، وقابل الشعب هذا القرار بالرفض والامتعاض، وكما يقولون فإن لكل بداية نهاية، ولكن البرادعي خرق العادة وأصبحت نهايته هي نفس لحظة إعلان بدايته.