التقيت في فندق الشيراتون بالدوحة الأسبوع الماضي نفراً كريماً من المفكرين والمتنفذين الذين جاءوا من أصقاع العالم لحضور التجمع الثقافي العالمي المعروف بمنتدى الجزيرة. وكان من بين هؤلاء أستاذ جامعي من إحدى الجامعات السودانية المعروفة ، لا داعي لذكر الأسماء. بدأنا نتعارف وسألني عن منطقتي في السودان ، وعندما أجبته أردف يسألني عما إذا كنت أنتمي إلى القبيلة الفلانية أو الفلانية !!! هذا السؤال ذكرني بمواقف مرت بي وأنا في السودان ، ومن أبرزها كنا في مجلس مع عدد من الشباب في بيت أحد الإخوة وكنت قد عدت لتوي إلى السودان بعد غياب دام أكثر من ثمان سنوات. بدأ المضيف يقدم ضيوفه لبعضهم البعض فاعترض أحدهم واقترح أن يقدم كل شخص نفسه بنفسه. فبدأ الأول فالثاني فالثالث إلخ... اللافت في الأمر أن كل شخص عرف نفسه بقبيلته وهو شيء جديد لم ألَفه. في اليوم التالي زرت مكتب المؤسسة التي انتدبتُ منها للعمل خارج الوطن فقابلت المسئول الأول الجديد لأعرِّفه بنفسي ، فإذا هو أيضاً يسألني أثناء التعارف عن قبيلتي! أصبت إحباط شديد ، وتساءلت عن سر إدراج القبيلة في التعارف فعلمت أنها ثقافة جديدة ، وأن قبيلتك هي التي ستحدد موقعك في السُّلَّم الاجتماعي ، ونظراً لما حصل من زواج قسري بين السلطة والمال ، يكون نصيبك منهما تباعاً ... أدركت حجم المسالة القبلية في السودان في موقف عجيب. صليت في أحد مساجد أبو ظبي ذات مرة والتقيت شاباً سودانياً داخل المسجد ، وبينما كنا ننتظر حلول وقت العصر طلبت منه التعارف ، كعادة السودانيين في بلاد الغربة إذ يشعرون بالحنان تجاه بعضهم بعضاً كما لو كانوا من أسرة واحدة ، بصرف النظر عن أقاليمهم أو عرقياتهم. الشاب ملامحه دارفورية ويتجاوز العقد الثالث من عمره بقليل. تم التعارف وعلمت أنه جاء لتوه من السودان يبحث عن عمل بعد أن جف "الضرع". وفي سياق الهَوَس القبلي أبرز لي هذا الشاب بطاقة رسمية تبين انه نائب سلطان قبيلة دارفورية ، فحكى لي كيف انتهى به الأمر إلى نائب سلطان قبيلة ولولا سنه لكان هو سلطان القبيلة، مع أنه قُبيل تنصيبه لم يكن يعرف أنه ينتمي إلى هذه القبيلة بحكم أنه يسكن في النيل الأبيض ولم يسمع عن هذه القبيلة إلا مما يستذكره من حكايات جده. ولكن عندما قامت الفورة القبلية وأصبحت السلطة الحاكمة تدفع في هذا الاتجاه بقوة انهمك هذا الشاب في دراسة كتب التاريخ وذكر بأنه خلال فترة وجيزة اكتسب معرفة جيدة عن تاريخ هذه القبيلة وبعد اتصالات مع بعض أفراد القبيلة في الخرطوم قدم لهم ما عنده من معلومات عن القبيلة فبَهر بها القوم الذين بدورهم اتصلوا بزعيم قبيلتهم في دارفور وتقرر أن يكون هذا الشاب مرجعاً في تاريخ القبيلة ، ومن ثم تم اختياره نائباً للسلطان وتم اعتماده على الفور من قبل الحكومة ولو لا صغر سنه لكان هو السلطان نفسه! بدأت أتساءل وأسأل عن هذه الظاهرة الغريبة التي أطلت برأسها وما لبثت أن التهمت جماعات المثفين ، فعلِمتُ أن القبيلة أصبحت تحدد مستوى العلاقات وحظوظ السلطة والجاه!! وأنا أتأمل هذا الواقع يحضرني ما قاله السيد رئيس الجمهورية يوم 29 ديسمبر 2010 في خطاب له على الملأ في جنوب دارفور أن فاروق أبو عيسى "ليس وراءه قبيلة". فأدركت أن الظاهرة مرعية من أعلى سلطة في الدولة ، فلا غرو إذن أن ينكب السودانيون على كتب التاريخ وينفضوا الغبار عن قبائلهم التي غُبرت بفضل التصاهر والتنقل ، لتعود القبيلة مطلة برأسها ، وليتها برزت من جديد لإعادة قيم اجتماعية اندثرت أو أوشكت أن تندثر، ولكنها عادت لتنهش التعايش السلمي الذي شهده السودان عبر القرون ، وليس أدل على ذلك من الاقتتال الدائر هذه الأيام في دارفور وغرب كردفان فيما بين بطون بعض لقبائل ال"عربية". ويأخذ الصراع أشكال مختلفة في مناطق أخرى من شمال السودان (المناصير). سؤال الدكتور الجامعي عن قبيلتي كانت مفاجئة بالنسبة لي ، أوضح بجلاء مدى تدني مستوى الوعي القومي لدى النخبة السودانية سواءً الحاكمة أو المجاورة لها، كما يعكس درجة من الانحطاط القيمي والجهل بما يجري من تطورات سياسية واجتماعية وثقافية في العالم الخارجي ، هذا فضلاً عن أنه مؤشر خطير لتقهقر السودان ثقافياً كإضافة جديدة لتقهقره السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ربما أحسنا الظن بالقبلية وحسبناها واجبة إذا كان القصد منها الحفاظ على القيم والعادات الجميلة وتعزيز التعايش السلمي الذي شهده السودان خلال العقود الماضية ، مخافة أن تلتهمها العولمة التي أصبحت تتربص بكل خصوصيات الشعوب. ولو أن هذه الموجة القبلية العاتية كان القصد منها تقليب صفحات التاريخ بغية التعمق في تراث الآباء بما يحويه من حِكَم ومِراس في الحكم بحثاً عما قد يسهم في علاج مشاكل الحاضر ، لقلنا أن ذلك في غاية من الأهمية. وفي هذه الحالة ستسهم القبيلة ، كوحدة اجتماعية تتوسط الأسرة والمجتمع ، في بناء السودان المنشود ، وبالتالي ستسهم في تعميق السِلْم الاجتماعي. ولكني أشك في أن يكون ذلك كذلك ، نظراً للاحتراب القبلي السائد حالياً في مختلف أطراف السودان والذي يتجلى في مختلف الصور من تناحر وتنابز بالإلقاب إلى المواجهة المسلحة ، مما يُعد دليلاً على أن ظاهرة القبلية في السودان آخذة في التنامي ، وفي أسوأ تجلياتها الضاربة في الجاهلية. أسوأ التجليات المقيتة للقبيلة في السودان اليوم التغني بأمجاد الماضي ونسيان المقولة الشهيرة "إن الفتي من يقوم هأنذا وليس الفتى من يقوم كان أبي". وأكثر ما يطرب أهل السلطة ويسكرهم حتى الثمالة الأغاني الشعبية التي تذكر قبائلهم بالاسم ! ما قيمة الفخر بما فعل الأجداد إذا لم تسع لإنجاز أفضل مما فعلوا؟ الخبر السار هو أن الظاهرة تفتقر إلى مقومات البقاء طويلاً ، لأن المصالح أصبحت تحكمها ثقافة السوق. وفي ظل العولمة الحالية ، حيث اجتمع العالم كله في قرية صغيرة بفضل شبكات التواصل الاجتماعي والانترنت ، أصبحت الدولة القطرية بمفهومها التقليدي في خطر ، بل أصبح مفهوم السيادة الوطنية في حاجة لإعادة تعريف ، إذ لم تعد الحدود الجغرافية ذات قيمة تذكر ، لأن المواطن بوسعه عقد صفقات تجارية ضخمة مع جهات خارجية ويمكنه إرسال الأموال والبضائع والمعلومات من دولة إلى أخرى ، وهو جالس في مكتبه أو بيته ، دون أن تكون للسلطة الحاكمة أدنى معرفة بما يجري. هذا ناهيك عن أن ثقافة السوق تعزز مكانة الفرد – وليست المؤسسات كما كان في الماضي - كقيمة سوقية بما ينطوي عليه من متطلبات القيمة السوقية من كفاءة وتأهيل والقدرة على الإبداع والابتكار ، بعيداً عن أية اعتبارات ذات صلة بلون البشرة أو الجنس أو العرق أو الدين. بل ، إن البيع والشراء يتم عبر الانترنت دون أن يعرف البائع موقع المشتري أو العكس في الكرة الأرضية ، ناهيك عن معرفة قبيلته أو لون بشرته أو دينه. إذن مَن يروج للقبلية في هذا الواقع العولمي المتسارع إنما يغرد خارج السرب ، وهو الخاسر في نهاية المطاف بالرغم من وجود مكاسب آنية. هذا يفسر بالضبط وجود السودان خارج المنظومة الاقتصادية العالمية ، لأن السودان يكاد يكون الدولة الوحيدة في أفريقيا التي لا يستخدم فيها بطاقة الائتمان حتى الآن ، ولا يستطيع شبابه ممارسة أي مهنة عبر الانترنت تخفف عنه وطأة البطالة !! الخبر السيء هو أن كلفة القبلية باهظة لأنها من ناحية مسنودة من الطبقة السياسية والمثقفة التي تتخبأ وراء القبيلة من أجل كسب بعض حظوظ السلطة والجاه ، ومن ناحية أخرى فإنها تلقى رعاية كاملة من السلطة لأنها ، أي القبيلة ، أصبحت إحدى أدوات السيطرة والتحكم!! وفي كلا الحالين تدفع الدولة والمجتمع ثمناً باهظاً ، تقهقراً إلى القرون الوسطى ، بينما العالم من حولنا يتقدم بفضل استجابته لمتطلبات الفضاءات المفتوحة. كم كنا نتوقع أن يكون للنخبة السودانية في الداخل دور حاسم في توجيه المجتمع بمختلف كياناته العرقية إلى إدراك أهمية التعايش السلمى والاحترام المتبادل والسعي نحو تعزيز الانتماء للسودان كدولة ، ومن هنا تكون القبيلة أداة من أدوات تمتين الهوية وقيم الحرية والمساواة بين مختلف مكونات المجتمع. لتكن القبيلة عنصراً من عناصر البناء والتنمية والإثراء الثقافي ، لأنه لم تعد هناك قرية أو مدينة ، ناهيك عن ولاية ، خاصة بقبيلة معينة ، حيث أن التصاهر والتداخل القبلي خلال العقود الماضية لم يستثن أي جماعية عرقية، مما جعل الأرضية صالحة لبناء سودان الغد. عليه ، فإن أي تنمية في أي قرية أو مدينة أو ولاية يكون المستفيد منها أهل المنطقة المعنية بمختلف انتماءاتهم العرقية. ومن هنا فإن أي سوداني يتلقى تأهيلاً علمياً سيعم خيره كل الناس سواء في قريته أو مدينته أو ولايته أو السودان ككل ، وليست مجموعته العرقية.