كان يوجد بالخرطوم السوق «الأفرنجي» والسوق «العربي». كلمة «عربي» هي إشارة إلى البداوة وعدم النظام و«البلدية» في التعامل. كتب عمار أوزيجان أحد قادة الثورة الجزائرية، وقد كان ماركسياً قبل أن يتحوَّل إلى إسلامي، كتب في كتابه «الجهاد الأفضل»، أن الفرنسيين كانوا إذا أرادوا أن يحطّوا من قدر عمل من الأعمال، كانوا يقولون «هذا العمل العربي». إختصّ السوق «الأفرنجي» في الخرطوم بالبضائع «العصرية الحديثة». بينما اختصّ شقيقه «العربي» بالبضائع غير العصرية. ودارت دورة الزمان في الخرطوم، ليختلط «حابل» الأسواق ب «نابل» الأسواق، لتعيش الخرطوم في محيطمن الأسواق العشوائية، والهرجلة، ومكبِّرات الصوت، و«الكرابيج»، والخيل، والرّكشات، والحمير والدفّارات، والدخان والغبار، وجيوش الباعة الثابتين والمتجوّلين والمُطَارَدِين. حيث فِرَق المحليات من المغيرات صبحاً، تطارد جيوش الباعة المهرولين من العاديات ضبحاً! اختلط «حابل» الأسواق ب «نابل» الأسواق، لتعيش الخرطوم في إطلالة من «الكَشَكَة» و«الفارشين» على الأرض، والطّبالي و«الشوالات» القديمة وحطام الترابيز، وبقايا الكراتين والأكياس المهترئة. فظهر من الأسواق «الجديدة» في الخرطوم سوق الناقة، وسوق «6»، وسوق سعد قشرة، وسوق خليفة، وسوق حلايب، وسوق «أم دفسو» وسوق «كرور»، وسوق «5» دقائق، وغيرها، لتنضمَّ إلى شقيقاتها من أسواق المدن السودانية الأخرى. وتمّ ترييف الخرطوم بالكامل... بالهناء والشفاء! وتمّت توأمة بين الخرطوم والمدن الأخرى، من خلال توأمة الأسواق القديمة في تلك المدن والأسواق العشوائية الجديدة في الخرطوم. حيث يوجد «سوق الآخرة» في مدينة ود مدني بالقرب من مقابر المدينة، ويوجد نظيره في الخرطوم بالقرب من مقابر فاروق. كما يوجد سوق «أم سُوِيقَة» على ضفاف النيل الأزرق! وأيضاً سوق «أب جَهَل» في مدينة الأبيض، وسوق النسوان في كسلا، وسوق ود العجوز في سنار، وسوق «كونجو كونجو» في جوبا، وسوق «شلاتين» في بورتسودان، وسوق «أب شرا»، وغيرها. هناك في مدينة تونس منطقة «باب سُوِيقة» وهي تصغير سوق. في مدينة أبَّشي في تشاد، يوجد أيضاً «أم سويقة» وهي اسم أحد أحياء المدينة. في ود مدني يوجد سوق «أم سويقة»، أي السويقة، أي السوق الصغير. الهجرة المليونية التي ظلت تتدفق منذ السبعينات، من الولايات إلى الخرطوم، حملت معها أسواقها. طريقة البيع والشراء في أسواق الخرطوم، لا تتم بتحديد سعر الصّنف، بل بالمساومة و«الغُلاَط» والجدل المضني، كأنها صدىً بعيد لبداية التجارة الناطقة، التي أعقبت التجارة البكماء! في اليونان والهند وتركيا ومصر وبلاد الشام وأقطار المشرق العربي، يوجد هذا النمط من البيع والشراء، نمط الجدلوالمغالطة «المفاصلة». الله أعلم متى سيتوقف آخر جدل بين مشترٍ وبائع في تلك الأسواق، الله أعلم باليوم والتاريخ الذي ستنتهي فيه تلك العادة بين الناس. متى ستكون آخر صفقة من هذا النوع من البيع والشراء؟ ذلك اليوم سيكون عيداً لأولنا وآخرنا، عيداً قومياً تحتفل به الأجيال القادمة، عيد يعلن نهاية الفوضى والعشوائية. يستخدم الأمريكيون كلمة «بازار» أي «السّوق الشرقي» للتعبير عن الفوضى والهرجلة. لقد تطورت فوضى الأسواق من يرقة إلى شرنقة، إلى عشوائية كاملة. لابدَّ من بداية جديدة لأسواق الخرطوم. في عام 1936م، ظهر «السوبر ماركت» في «كنساس»، في الولاياتالمتحدةالأمريكية، ليكتسح تدريجياً كل أنواع الأسواق الأخرى، وليصبح نظاماً عالمياً للتسُّوق. مثلما نظامالمزارع التجريبية، يمكن أن تقام أسواق نموذجية، تعكس العرض الراقي الجذّاب للبضائع، وبأسعارٍ مناسبة، تعكس النظافة والنظام والهدوء، وتثبيت ورقة صغيرة لاصقة توضح سعر الصَّنف، أسواق تستقبل المشتري بالإبتسام وتودّعه بالشكر والدعاء. الخرطوم حقيقة بحاجة إلى أسواق «بدون كواريك»!