متابعة الأجهزة الإعلامية خلال مراحل الأزمات أياً كانت طبيعة هذه الأزمات سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أو غيرها هي بلا شك عملية ممتعة لمن يريد قراءة وتحليل ما يجري من أحداث، برغم أن القراءة الدقيقة لهذه الأحداث تكاد تكون من الصعوبة بمكان حتى بعد أن انفتح العالم على بعضه البعض بعد الثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات والتكنولوجيا التي جعلت من العالم ليس قرية صغيرة فقط بل حولته الى غرفة ضيِّقة شديدة الصغر حتى لتكاد وأنت في بيتك تشتم غبار معارك تدور على بعد الآلاف من الأميال بعيدًا عنك. نقول حتى بعد كل هذا فإن محاولة تحليل حدث وقراءته قراءة صحيحة هي شيء من الصعوبة بمكان. ذلك أنه وبرغم تعدد القنوات الإعلامية التي يمكن عبرها متابعة تفاصيل الحدث لحظة بلحظة، إلا أن تداخل المصالح وتضارب الاتجاهات والرؤى حول حقيقة ما يجري وتفاوت ذلك من جهة إلى أخرى. هذا الشيء يجعل للحدث الواحد أكثر من رواية، وتفصيل وقراءة وتحليل وبالتالي نتيجة. وقد سقطت منذ أمد بعيد قصة حيادية الإعلام، أو بالأحرى لم يكن لها من وجود بالأساس فقد كانت وهمًا سيطَر على الدراسات الإعلامية ردحًا من الزمن لكنه انهار بعد أن ثبت بالدليل القاطع أنه ما من شيء يبث على وسيط إعلامي، أياً يكن، إلا وخلفه دوافع معينة صغرت في قيمتها أو كبرت. لقد مر عالمنا العربي والإسلامي بأحداث هي في حجم الزلازل، شكَّلت وأعادت تشكيل الخارطة السياسية والبشرية والجغرافية في أغلب المنطقة العربية بل وعملت على تغيير ديموغرافيا بعض هذه المناطق تمامًا. ولكن بالمقابل فإن ما يمكن رصده وقراءته عن طبيعة الأحداث التي أدت إلى هذا التغيير تكاد تكون من الصعوبة بمكان حتى لأكثر الباحثين حنكة ودراية. وتظل حقيقة ما حدث ضربًا من التخمين في كثير من الأحيان أو لربما وعلى أحسن الفروض تظل نظريات قابلة للتغيير متى ما استجدت بعض الأمور وظهرت حقائق قد كانت خافية. وبرغم ضبابية الرؤية حول كثير مما يحدث في العالم اليوم إلا أن هناك الكثير أيضًا مما يساهم في إلقاء ضوء كاشف يُبرز أيضًا كثيرًا من الحقائق ويُعريها، برغم أنه في نهاية المطاف لا يخرج عن كونه لعبة أخرى في مزايدات يعرفها أصحاب المصلحة وحدهم، بمثل ما يجري بين الحين والآخر من تسريبات لوثائق تتعلق ببعض الأحداث الجارية وتلك التي عفى عليها الزمن. لقد أثبتت الأحداث الأخيرة التي شهدتها مصر منذ الفوز الذي حققه حزب الحرية والعدالة في الانتخابات التي جرت عقب ثورة 25 يناير، كيف أن الإعلام يمكنه قلب كل الموازين. فمنذ التحركات التي قامت بها جماعات المعارضة في أرض الكنانة من أجل نزع الشرعية عن الرئيس المنتخب والحملات الدعائية التي شنتها حركة «تمرد» التي تولت مسؤولية إسقاط الشرعية الدستورية واستبدالها بما أطلقت عليه شرعية الشارع، في ازدواجية مفاهيمية غريبة، نقول منذ ذياك التاريخ والشعب المصري ومن ورائه العربي والآخر الأجنبي لا يكاد يستبين حقيقة ما يجري في ظل فرقعة إعلامية كاذبة تظل تدير العملية السياسية في مصر كأسوأ ما يكون. فلقد استغلت تمرد الآلة الإعلامية الضخمة التي تدير السياسة في مصر ووجهتها باتجاه إسقاط الشرعية الدستورية وهي تعلم تمامًا وقوف القيادة العسكرية من ورائها والتي ظلت تدير وبأصابع خفية كثيرًا من التحركات ضد هذه الشرعية. بل إنها وفي خطوة جريئة وعلنية قد حلَّقت طوافاتها فوق معارضي ميدان التحرير في اليوم السابق لإعلان عزل الرئيس مرسي وهي تحمل العلم المصري في إشارة واضحة لانحيازها لشرعية التمرد والفوضى التي كان يمثلها الميدان. وبمثل ما ظلت الطوافات العسكرية تدعم محتجي الميدان وتترك مؤيدي رابعة العدوية في مواجهة النيران والموت، فقد ظلت طوَّافات الإعلام تصور حدثًا ليس له وجود، أو بالأحرى تُضخِّم حدثاً هو أقل بكثير مما تظل تتناقله الوسائط الإعلامية. فقد تناقلت القنوات الفضائية أخبارًا عن شرعية «الشارع» التي ظلت تلوكها إخباريات تمرد، وتدفع بها للعالم في محاولة لإثبات أن الملايين التي خرجت لعزل حسني مبارك قد خرجت مرة أخرى لعزل الرئيس مرسي المنتخب برغم كل شيء.. حاولت تمرد ومن ورائها المؤسسة العسكرية التي ضاقت ذرعًا بسياسة الحكومة المنتخبة تجاه الكثير من القضايا الداخلية والخارجية، حاولتا أن تختلقا شرعية منافسة لشرعية صناديق الانتخاب عبر فبركة إعلامية لتقنعا المجتمع الدولي بأن الشرعية التي جاءت بمرسي هي نفسها الشرعية التي انتزعت منه الحكم وصادرت كل البطاقات الانتخابية التي جاءت به. وهي إذ تفعل ذلك تستند إلى أعداد جماهيرية وهمية تختلقها و تقول إنها تظل تتدافع لتعبر عن الرفض للحكومة المنتخبة. لقد أثبتت العديد من التحليلات والدراسات التي أجرتها مؤسسات عالمية حول أعداد الذين خرجوا في ما أُطلق عليه شرعية الشارع، أثبتت أن هذه الجموع لم تصل إلى مستوى يؤهلها لتكون بديلاً للشرعية الدستورية التي جاءت بها صناديق الاقتراع، بل هي أقل من ذلك بكثير لكنها فقط حظيت برعاية المؤسسة العسكرية التي أرادت أن تضع حداً لعهد بات يهدد كثيرًا من المصالح الإستراتيجية ليس في مصر وحدها بل في منطقة الشرق الأوسط برمتها وكما قال أحد الدبلوماسيين الغربيين فقد أحدث مرسي في الجيش المصري تغييرًا في أقل من عام قد استلزم القيادة التركية مثلاً أكثر من «20» عامًا لتفعل مثله. لقد لعب الإعلام دورًا ليس بالهيِّن في أحداث عزل مرسي، الرئيس الذي جاء على أجنحة الديمقراطية التي يظل يتباكى عليها الغرب ويقيم لها العزاء في المنطقة العربية والعالم الثالث عمومًا.. وأثبت تمامًا أن دولة بلا إعلام قوي داخلي وخارجي هي دولة آئلة للسقوط مهما بدا غير ذلك.