أخشى ما أخشاه أن توظف الانتفاضة التي شهدتها مصر في 30 يونيو في الانقضاض على ثورة «25» يناير، على نحو يفتح الباب للاصطفاف مع مبارك ونظامه. «1» كأننا بصدد إعادة كتابة تاريخ ما جرى فى مصر مؤخرًا، وكأننا بصدد إحياء التقليد الفرعوني القديم الذي بمقتضاه كان الفرعون الجديد يمحو آثار سابقه من على المسلات وجدران المعابد ليبدأ به التاريخ. وهو ما نلمسه فى الكتابات وفى حوارات البرامج التليفزيونية التى تبث هذه الأيام. وهى التى بدأت هجاء للإخوان وهجومًا على الرئيس والحكومة، وانتهت تجريحًا لثورة 25 يناير وتشويهًا لصورتها ودعوة إلى طى صفحتها وإخراجها من التاريخ، انتصارًا لما اعتبروه ثورة الشعب الحقيقية فى 30 يونيو. قرأت لمن كتب أن 30 يونيو «ثورة على الثورة» «المصرى اليوم 6/7» وأن الثورة الأخيرة جاءت بعدما جرت مراجعات كثيرة وجاء الندم ومن بعده الاعتذار. وأن ثورة يناير سقطت فى يد الإخوان، ولذلك فإنها لم تحمل البلد إلى الأمام وإنما أعادته قرونًا إلى الوراء. وجاء آخر ليقول ان ما حدث فى 25 يناير لم يكن ثورة على الإطلاق، وإنما كان انتفاضة شباب لم يخل بعضهم من هوى موجه وممول ضد داخلية حبيب العادلى ثأرًا لخالد سعيد «الوطن 21/7». وهى إشارات ترددت فى كتابات وحوارات عديدة، خصوصًا تلك التى دأبت على بثها القنوات الخاصة التى اشتهرت بأنها قنوات الفلول التى يتصدر الإعلاميون فيها رجال مبارك وابنه جمال. وقد اشتم أحد زملائنا الرائحة فى الساحة الفنية فكتب قائلاً ان البعض انتهزوا فرصة المرحلة الضبابية التى تمر بها مصر لاستعادة زمن مبارك، واعتبار أن ثورة 25 يناير كانت «نكسة» تعرضت لها مصر. واستشهد ببعض البرامج التى عبرت عن ذلك الموقف ثم عقب قائلاً: انها تمثل البداية لمعركة فضائية قادمة تلوح فى الأفق، للانتقام من كل ما يمت بصلة لثورة 25 يناير. والأمر ليس عشوائيًا، ولكنه مدبر. ذلك أن المباركيين الجدد يريدون الانتقام من ثورة 25 يناير «طارق الشناوى جريدة التحرير15/7». «2» ما عاد مجديًا الجدل حول تكييف ما جرى فى 30 يونيو، وهل هو انقلاب أم ثورة، لأن ذلك الجدل بات يعتمد على الهوى السياسى بأكثر من احتكامه إلى مبادئ علم الاجتماع السياسي. وكانت النتيجة ان العالم أصبح يراه انقلابًا، فى حين ان خطابنا الرسمى وبعض مثقفينا صاروا يقسمون «بالثلاثة» على أنه ثورة كاملة الأوصاف. لكننا إذا تجاوزنا عن تكييف ما جرى فإننى أزعم أن المقابلة بين ما حدث فى 25 يناير وبين ما جرى فى 30 يونيو ليست فى صالح الحدث الأخير، كما أن القول بأن الثانية تنسخ الأولى وتجُبُّها لا يخلو من جرأة تصل إلى حد التغليط الفاضح، إذا سألتنى لماذا فردى أوجزه فى النقاط التالية: ثورة يناير هى التى كسرت حاجز الخوف عند المصريين وأسقطت صورة الحاكم الإله والفرعون المقدس، أما انتفاضة يونيو فكانت فرعًا عن الأصل واستلهامًا للجرأة التى كانت قد تولدت من قبل. ثورة 25 يناير تمت فى ظل اجماع شعبى نادر استعادت فى ظله الجماعة الوطنية المصرية لحمتها، فاتفقت على الخصم «نظام مبارك وأجهزته القمعية» كما اتفقت على الأهداف «عيش حرية عدالة اجتماعية» أما ما حدث فى 30 يونيو فقد تم فى ظل انقسام واستقطاب شعبى حاد فى المجتمع المصرى لاحت فيه نذر الحرب الأهلية التى ضربت الاجماع الوطنى. موقف الجيش كان مختلفًا تمامًا فى المشهدين. ففى 25 يناير وقف الجيش يتابع المشهد عن بعد ثم تدخل لكى يحمى الاجماع الشعبى. أما فى 30 يونيو فإن قيادة الجيش كانت فى قلب المشهد وعلى صلة به منذ وقت مبكر، وحين تدخلت فى ظل الانقسام الوطنى، فإن تدخلها كان انتصارًا لفريق على فريق آخر. ثورة 25 يناير كانت بالأساس ضد الظلم السياسى والاجتماعى ولذلك استخرجت من الناس أجمل وأنبل ما فيهم، أما انتفاضة 30 يونيو فقد كانت ضد الإخوان بالدرجة الأولى، ولذلك كانت محبة الوطن والغيرة عليه وارادة فى الأولى، فى حين كانت كراهية الإخوان واقصاؤهم واقتلاعهم وراء الثانية، الأمر الذى استخرج من الناس أسوأ ما فيهم. ثورة 25 يناير كانت ضد رئيس احتكر السلطة بالتزوير، واتسم عهده بالاستبداد والفساد طوال ثلاثين عامًا. أما انتفاضة 30 يونيو فقد انطلقت ضد رئيس انتخب ديمقراطيًا. بالتالى فإن 25 يناير كانت ثورة على الاستبداد والفساد، أما انتفاضة يونيو فإنها كانت ضربة للمسار الديمقراطى الوليد. فى أعقاب ثورة 25 يناير وبعدما تولى السلطة فى البلاد أول رئيس مدنى للدولة منتخب ديمقراطيًا فى التاريخ المصرى تم إخراج الجيش من السياسة بإقالة رئيس المجلس العسكرى ورئيس الأركان وحل المجلس العسكرى، وحين حسمت هذه المسألة بدا الأفق مفتوحًا لإمكانية إقامة النظام الديمقراطى. أما فى أعقاب انتفاضة يونيو فقد عاد الجيش كقوة سياسية إن لم يكن القوة السياسية الوحيدة فى البلاد، الأمر الذى فتح الباب للحيرة والبلبلة بشأن المستقبل ودور الجيش فى صياغته. «3» لو أن أحدًا قال لى إن الرئيس مرسى ارتكب اخطاء فادحة وجسيمة فلن اختلف معه، ولكى اطمئنه فاننى أحيله إلى ما كتبته بهذا الخصوص فى وجوده. ولذلك فاننى انطلق من التسليم بأخطائه، واختلافى مع معارضيه ليس حول وجود تلك الأخطاء ولكن فى كيفية علاجها. إذ فى حين أقف فى صف الداعين إلى ان يتم العلاج من خلال القانون والدستور، وفيهما الكثير الذى يمكن من خلاله تحقيق تلك الغاية، فإن المعارضين استعانوا بالقوات المسلحة للإطاحة به وعزله. ووضعه فى مكان مجهول بدعوى تأمينه، مع عدم السماح لا لمحاميه ولا لطبيبه المعالج بالاتصال به. لو أن الأمر ظل فى حدود ما أصاب الدكتور مرسى وجماعته لهان، ولو كانت النتيجة مقصورة على إزاحة الإخوان من السلطة وتمكين جماعة أخرى محلهم لبلعناه مؤقتًا. لان ما جرى فتح الباب لما هو أكثر جسامة وأشد خطرًا. ذلك ان الجيش إذا كان قد فعلها هذه المرة استجابة لنداء الحشود الكبيرة التى خرجت إلى الميادين، فما الذى يمنع أن يفعلها مرة أو مرات أخرى استجابة لنداء حشود أخرى تجمعت فى ظرف مغاير. من ناحية ثانية فإننا لا بد ان نستريب من ذلك الهجوم الشرس على ثورة 25 يناير التى وصفها البعض بأنها «نكسة» أصابت مصر، وتجرأ أحدهم ووصف المدافعين عنها بأنهم «مرتزقة»، فى سياق هجاء هابط ووصلة ردح تليق بجدران دورات المياه. إلا ان الأمر أبعد من الردح والإسفاف فى القول، لأننا فيما بدا بإزاء إعادة لكتابة تاريخ المرحلة الراهنة تباشره أبواق وأصابع الدولة العميقة، التى هى صاحبة المصلحة الحقيقية فى إجهاض ثورة 25 يناير والانقضاض عليها. سيناريو الانقضاض الذى أراه فى الأفق الآن ينطلق من الادعاء بأن ما جرى فى 25 يناير مؤامرة دبرها الإخوان مع حماس وحزب الله، وهى المؤامرة التى أوصلت الدكتور محمد مرسى ومن ثم أدخلت مصر «الأخونة». أما ما تم خلال الثورة وبعدها من عمليات قتل وقنص وإحراق لبعض المنشآت العامة، إضافة إلى موقعة الجمل التى أريد بها ترويع المتظاهرين وإشاعة الفوضى فى ميدان التحرير، وغير ذلك من الحوادث والجرائم التى نُسبت ظلمًا وزورًا لما سمى بالطرف الثالث، فى حين أنها جميعًا كانت من فعل الإخوان. طبقًا للسيناريو المرسوم. وهذا الكلام ليس من عندى لأن أغلبه نشرته الصحف المصرية، خصوصًا الجريدة التى وصفت المدافعين عن ثورة 25 يناير بأنهم مرتزقة، وذكرت ان «أبالسة» الإخوان هم الذين ضحكوا على المصريين والعالم بأسره حين وصفوا ما جرى فى ذلك اليوم بانه ثورة، وهم الذين صكوا شعارات الثورة ليخدعوا بها الملايين، حين ادعو أن هدفها هو العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. بهذا المنطق الذى جعل أصحابه يكرهون التاريخ ويقلبونه رأسًا على عقب، لانهم يكرهون الإخوان، فان ثورة 25 يناير والفترة التى تلتها تعد فى نظرهم مؤامرة يجب إعلان البراءة منها وجريمة يجب أن تمحى آثارها. لا يقف السيناريو عند ذلك الحد، لأن نسبة كل الجرائم التى وقعت أثناء الثورة وبعدها إلى الإخوان تصب فى هدف أبعد، إذ إنه يبرئ الداخلية وجهاز أمن الدولة ويغسل أيديهم من الدماء والقلاقل التى حدثت فى تلك الفترة. وإذا لاحظت أن المحاكم المختلفة فى مصر برأت «بالمصادفة!» ضباط أمن الدولة من جرائم التعذيب والقتل التى حدثت أثناء الثورة وبعدها، فسوف تكتشف أننا بإزاء سيناريو محكم ومحبوك، يستهدف فى نهاية المطاف غسل أيدى رجال أمن الدولة من دماء الثوار وتبييض صفحة السيد حبيب العادلى، مع تلبيس التهمة للإخوان. هذا الفيلم الذى يجرى إخراجه بهدوء وحقق حتى الآن نجاحًا بدا ساحقًا له ثلاثة أهداف هى: اغتيال الإخوان وإخراجهم من الساحة تبرئة جهاز أمن الدولة والتمهيد لعودته إلى الساحة «المتحدث باسم وزارة الداخلية أعلن ذلك صراحة وقال ان التاريخ انصفنا بأسرع مما توقعنا» الهدف الثالث هو فتح الباب للتصالح مع نظام مبارك باعتبار أن الإخوان كانوا خصمًا له أيضًا، وإعمالاً للقاعدة التى تقول عدو عدوي صديقي. وهو ما يدعوني إلى التساؤل عمّا إذا كان ذلك هو المقصود بالمصالحة الوطنية التي يتردد الحديث عنها هذه الأيام. «4» أشم فى تلك المشاهد المتتابعة رائحة السيناريو الرومانى، الذى تمكنت فيه الأجهزة الأمنية من مقدرات البلد بعدما ثارت الجماهير على الرئيس نيكولاى شاوشيسكو، ثم تم إعدامه هو وزوجته فى نهاية عام 1989، وظلت أصابع تلك الأجهزة تعبث بالشارع وتتحرك فى دوائر المعارضة، وفى تشكيل ما سُمي آنذاك بجبهة الإنقاذ الوطنى، إلى ان انتهى الأمر بعودة رجال النظام القديم إلى السلطة مرة أخرى. لا نستطيع أن نستبق ونقول إن ذلك سيحدث فى مصر. لكنى لا استطيع ان اتجاهل تلك الرائحة الرومانية التى تفوح فى كواليس المشهد، لكنى أنبه فقط إلى إن الباب صار مفتوحًا لتوقع ذلك الاحتمال. وهو شك تعززه حقيقة أن الذين يروجون لسيناريوهات المستقبل المقلقة فى مصر الآن أطراف ليست فوق الشبهة، لا هم ولا المنابر التى يتكلمون من خلالها.