في يوم من الأيام كانت لنا بقرة دلاهة .. ومن آيات دلاهتها أنها في البداية كانت تعتبر نفسها ثوراً ولذلك كانت ترفض أن تحلب. وكانت ترى ذلك عيباً كبيراً وفضيحة لا تغسلها كل ألبان العالم ابتداءً من بلجرافيا إلى حليب النيدو .. وكانت تقاوم بعبط وبلاهة كل من يقترب منها وفي يده جردل ولكن الذين يحلبون لا يمكن أن يستسلموا بسهولة لبقرة هبلة ولذلك تكالبوا عليها حتى استطاعوا أن يحصلوا منها على لبن وفير وظللنا نتذوق ذلك اللبن وكأنه شيء جديد ونحن نصيح شوف لبن البقرة الدلاهة كيف؟ ولو كنا متقدمين تكنولوجياً لأضفنا لتراث العلم من الجبنة ومشتقات الألبان جبنة البقرة الدلاهة لتحتل محلها في السيوبر ماركات جنباً الى جنب مع جبنة البقرة الضاحكة وجبنة ابو الولد. ولم تكن تلك البقرة مصابة باي جنون بل كانت عويرة ودلاهة ولم تكن تعرف كيف يتصرف البقر وقد ظهرت عليها تلك الاعراض منذ أن كانت عجلة صغيرة كانت تلعب وتخالط الأغنام ظناً منها أنها غنماية ولكنها كبرت على الغنم التي لم تكن تستسيغ مزاحها السمج فكانت تهرب منها وتتحاشاها. وجنون البقر الذي أصبح مشكلة تتهدد الاقتصاد البريطاني لم يكن في يوم من الأيام معضلة بالنسبة لأبقار السودان ولا يظن أحد أن ذلك النوع من الجنون محصور في الجزر البريطانية وحدها فأبقارنا أيضاً تصاب بالجنون إلا أننا كنا قادرين على جنون أبقارنا فأهلنا اعتادوا أن يشخصوا ذلك المرض بأنفسهم وكان هناك شيوخ مشهود لهم باليد الطويلة كانوا يكتبون أحجبة وتمائم توضع على رأس البقرة في غرتها فتهدأ ويزول عنها ذلك الجنون بإذن الله. ولكن بقرتنا لم تكن مجنونة ولهذا لم نفكر في تعليق حجاب على غرتها بل كنا نظن أنها شقاوة جهل وعندما تكبر تعقل وتصبح بقرة فالحة إلا أنها كبرت بجهلها ودلاهتها وما رفضها للحلب إلا دلالة على ذلك فهل هناك بقرة عاقلة ترفض أن تُحلب؟ وظلت تلك البقرة تقاوم كل الأساليب لحلبها حتى كان ذات يوم عندما حاولت البقرة أن تعرف السر وراء تلك المحاولات المتكررة لحلبها وأظنها تساءلت في قرارة نفسها ماذا يفعل هؤلاء القوم بالحليب؟ والحليب أساساً معد للعجول الصغيرة لأنها لا تتناول شيئا غيره ولهذا عندما تنمو فإن البقرة تغرز أو تتوقف عن إنتاج اللبن ولكن هؤلاء القوم كبار السن يتناولون الحليب دون خجل بالرغم من أن هناك «40%» بالمائة لا يهضمون الحليب ولهذا كثيرًا ما نسمع بعض الذين يثقلون في تناول الحليب يتأوهون قائلين: - والله امبارح شربت لي لبينة غلتت عليّ فأرادت البقرة ان تعرف بنفسها ما الذي يدفع هؤلاء لشرب الحليب فقدمت رجليها الخلفيتين وحنت ظهرها وقوسته ورفعت يدها اليمني ومدت رقبتها حتى حصلت ضرعها واخذت ترضع. ولدهشتها فقد اكتشفت ان ذلك الحليب لذة للشاربين ومن يومها لم ترفض ان تحلب بل كانت تقف بهدوء تام في انتظار الراعي الذي يحلبها ولكن الراعي كان لا يجد حليباً اذ ان البقرة تكون قد اعادته مرة اخرى لمصنعها الداخلي وظلت تلك الحيرة ملازمة لنا وللراعي الى ان كان يوم صحا فيه الراعي ليلاً وشاهد المنظر الذي جعله يضرب كفاً بكف وهو يقول: البقرة دي عفريت ولا شيطان؟ في واحد يرضع نفسه؟ والله حكاية وفي الصباح علمنا كلنا بأن البقرة التي كنا نظنها دلاهة كانت ترضع نفسها. في ذلك الوقت لم يخترع كريستيان ديور او ايف سان لوران ما يعرف الآن بالسوتيان ولهذا اخترعنا سوتياناً من المشمع لنلبسه لتلك البقرة الدلاهة حتى تكف عن رضاعة نفسها كل ذلك لم يجعلنا نعتقد ان تلك البقرة مجنونة وهي لم تكن كذلك ولكنها عندما أُصيبت بالجنون حقيقة كان الوضع متغيراً فقد أُصيبت بقرتنا بحالة من مرض الذهان psychopathy وكان لذلك اسبابه كان والدي عليه رحمة الله ورضوانه يمتلك جملاً لعصارة الزيت وكنت أرى ذلك الجمل يلف ويدور وعيناه مغمضتان فأظل أراقبه وانا صغير السن في الرابعة من عمري حتى يصيبني النعاس فأنام.... الجمل والعصارة وام جقوقة وهي تفل السمسم والزيت بعد خلطها بالسكر اصبحت جزءًا من روتيني اليومي وكان عامل العصارة يأخذني ويضعني احيانًا على ظهر الجمل فأدور معه وكأني في اعظم مدينة العاب في العالم. في ليلة من الليالي صحوت على صوت أبي ورجال يحملون رتينة وهم يتكلمون ويتحركون داخل زريبة الجمل فتسللت من سريري وبقيت قريباً منهم وانا اشاهد ما يفعلونه في تلك الليلة الليلاء حدث ما هز كياني إلى يومنا هذا، لم اكن استوعب ما يحدث لقد كان اكبر من سني وادراكي الا انني كنت ادرك شيئًا واحداً وهو ان ذلك الحديث كله يدور حول الجمل. وإن اولئك الرجال يدبرون شيئًا للجمل... قبل يومين كان داود يقول ان رجل الجمل قد التوت وانه لم يعد قادرًا على الحركة فهل جاء هؤلاء لعلاج الجمل ولكن لا يبدو امامي شيء من هذا كان هناك رجل يضع عقالاً على ارجل الجمل الأمامية وآخر يربط حبلا حول أرجل الجمل الخلفية والجمل قد برك وهو يرسل رغاءً عالياً عاع عاع أحد الرجال يضع حبلاً حول رأس الجمل ورقبته ومعه آخر يجذبان رقبة الجمل الى الأمام وآخر عرفته على ضوء الرتينة هو النور الجزار ولكن ماذا يريد ان يفعل؟ ولم يمض زمن طويل وانا استمع لأصوات الرجال امسك .. جر .. شد عليك انت يا النور تعال من هنا خليك ماسك قوي وفجأة تلمع سكاكين وتنزل على نحر الجمل ويتدفق الدم غزيراً على رجلي النور والجمل لا يزال يرغي بصوت عال عقلي الصغير كان مشغولاً بمنظر الدم والجمل وهو يرغي والنور بسكاكينه وسواطيره لقد ظل ذلك المنظر محفوراً في ذاكرتي الى اليوم ولم افزع لشيء مثل فزعي وانا اسمع رغاء الجمل وكأنه يستنجد بي انا صديقه الذي اعتدت ان امتطي ظهره وكأني في اعظم مدينة ألعاب، لقد ذبحوا مدينة ألعابي وأسالوا دمها واراقوه على رجلي النور الجزار ومكثت ايامًا عديدة وانا مصاب بالحمى والهذيان مما افزع والدتي عليها الرحمة والغفران فزعت والدتي لأنها فقدت أخي الأكبر بعد ان خسر معركته مع الالتهاب السحائي، وقد صنفت وفاته تحت بند العين التي أصابت، ولهذا اخذتني لكل اهل الصلاح ليرقوني من العين ولكني كنت ارتعد خوفاً واشعر بالبرد والقشعريرة وانا اتخيل منظر ذلك الجمل وهو يرغي ويتدفق منه الدم كنافورة حمراء. في تلك الليلة كانت زريبة البقر بالقرب من زريبة الجمل، ويبدو ان البقرة قد شاهدت ما شاهدته لأنها اصبحت متغيرة كما قال داود وظهرت عليها اعراض مرض الذهان لانها كأنها ترفض الأكل وكانت تحملق بعيدًا وتحرك اذنيها بطريقة غريبة ونشف الحليب في ضرعها وكانت كأنها لم تعط حليبًا في اي يوم من الأيام.. المساعد البيطري لم يفلح في علاجها وكذلك المفتش البيطري الذي زارنا ذات يوم حيث شخص مرضها بأنه مرض عضوي ولم يكن يعلم انها مصابة بمرض نفسي ولو عاشت إلى اليوم لاتهمناها بمرض جنون البقر ولأبدناها وحرقنا جثتها، ولم تمض اسابيع قليلة حتى ماتت البقرة الدلاهة وتركت فراغًا كنا نشعر به واسعًا كبيرًا فضفاضاً لم تملأه زريبة من البقر. حاشية: كان الاخ المقدم» م «صلاح عبد العال يقول لي: هل تظن أن ناس ازهري والمحجوب هم الذين طردوا الإنجليز؟ ابداً وكلا الذين طردوا الإنجليز من السودان هم نحن أبناء حي الضباط لأننا كنا كل يوم نمشي الحي البريطاني ونأخذ اللبن بتاعهم والإنجليز طبعاً احرص الناس على شاي العصر أبو لبن ولذلك كرهناهم العيشة ولحدي ما طلعوا من السودان ما ضاقوا شاي العصرية أبولبن وكنت أقرأ بعض الكتابات الرومانسية التي تتحدث عن البوح وما ادراك ما البوح ويستهلكون هذه الكلمة في تعابير متشابهة وكلها بوح في بوح فكنت اتذكر ام بوح بقرة الطيب ود ضحوية والذي كان يقول: نحنا اتنين سلفاكا بنشد ود الضحاكة ساعة النجم يتاكا بنجيب أم بوح تتباكا والآن فإن أم بوح أصبحت في أمر ضيق مجنونة ولحمها يسبب الجنون فهل هناك أخطر من هذا البوح؟