الأوضاع السياسيَّة بالبلاد والأطر القانونيَّة والدستوريَّة صنوان لا يفترقان.. حيث تمارَس السياسة على جميع الأصعدة ويُدلي كلٌّ بدلوه متَّخذاً من السياسة مطيَّة إلى السلطة فكيف يضبط القانون والدستور ذلك دون كبت وقهر ويمنع التفلُّت ويحافظ على الحرِّيات والحقوق والديمقراطيَّة.. إذًا كيف يُكافَح الفساد في المال العام وهل يحتاج الأمر إلى تكوين مفوضيَّة ومؤسَّسات وقوانين ردعيَّة؟ ولماذا كثرت القنوات ولا فائدة؟ وما الحل الحاسم قانونياً.. وهل من رابط بين الجبهة الوطنيَّة التي عارضت نميري في السبعينيات والجبهة الثوريَّة التي تعارض الحكومة حالياً بجامع انضمام (المرتزقة) لكلٍ؟ وكيف تمَّت محاكمات (المرتزقة) في عهد نميري.. يرويها ل(الإنتباهة) المدَّعي العام في تلك القضية وهل تصلح ظروف البلاد حالياً لوضع دستور جديد وإشراك الحكومة الحاليَّة للأحزاب بالحكم هل يُعتبر ديمقراطيَّة؟ ولماذا تعارض بعد إشراكها وما صلتها بالجبهة الثوريَّة واستفتاء أبيي والجدل الدائر حوله بين الشمال والجنوب السوداني تكيُّفاً وتوقيتاً والملفات العالقة بينهما.. كل ذلك في حوارنا مع البروفسير يسن عمر يوسف المدَّعي العام الأسبق وأستاذ القانون العام بجامعة النيلين.. فإلى مضابط الحوار: كثرت قضايا الفساد والمفسدين وأُنشئت لها مؤسسات ردعية وعقابية جديدة مؤخرًا مثل (مفوضية الفساد وقانون الثراء الحرام والمشبوه وإبراء الذمة الذي يقدمه مسؤولو الدولة) أين ذلك عمليًا؟ إن مكافحة الفساد وخاصة المتعلق منه بالمال العام لا يحتاج أصلاً لقيام أو إنشاء مفوضية، فإن المراجع العام الذي يقوم باكتشاف الاختلاسات يرفعها للمجلس الوطني والذي بدوره يُحيلها إلى الجهة المعنية، والتي يجب أن ترفع الأمر إلى نيابة المال العام فوراً. وهذا هو الإجراء الصحيح والعملي وليس غيره. ولكن هل من حاجة لكل هذه القنوات التي تمر عبرها قضايا الفساد.. أليس هذا مهدراً ومبدداً للحق العام ويجعل المذنب طليقاً إلى مدى طويل وربما وجد مبرراً بكسب الوقت؟ قد يحدث أحياناً تباطؤ من المجلس الوطني أو من الجهة المعنية بغية التستُّر على الجريمة لأسباب سياسية، لهذا سبق أن اقترحت أن يقوم المراجع العام مع المدعي العام ومع نيابة المال العام باتخاذ مثل هذه الإجراءات حتى تُجهَض محاولات التستُّر على الجريمة لأسباب سياسية، إن سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قد استطاع أن يعيد المال العام من بني أمية إلى خزينة الدولة. من صور الفساد وتجاوز بعض المسؤولين لسلطاتهم الاستيلاء على الأوقاف؟ أموال الأوقاف هي مال عام، ولما كانت الآن هناك دعوى جنائية منظورة أمام المحاكم، فلا يجوز التعليق عليها. كنت مدعياً عاماً للسودان إبان محاكمات الانقلابيين الشهيرة على الرئيس الأسبق نميري عام 1976م.. حدِّثنا عن ذلك؟ إن التدخل العسكري عام 1976م، كان من تخطيط الجبهة الوطنية بقيادة الشهيد الشريف حسين الهندي، وعندما استقال مولانا المرحوم الصادق الشامي لخلاف مع النائب العام في تقييم البينات وتوجيه الاتهام، وحينها انتُدبت شخصياً لتولي الادعاء في تلك الاتهامات، وانتهت المحكمة العسكرية الخاصة بإعدام أربعة متهمين، والسجن لبعض المتهمين. الذين قمت بمحاكمتهم كمدعي عام سنة 1976م يقال إن بينهم مرتزقة يعملون معهم من دول مجاورة والآن يتكرر نفس السيناريو مع الجبهة الثورية المعارضة حالياً فهي أيضاً بها مرتزقة؟ الجبهة الوطنية المعارضة لنظام الرئيس الأسبق جعفر نميري كانت تتكون من الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة والإخوان المسلمين (الجبهة الإسلامية) وهدفها إسقاط نظام (نميري) ولكن الجبهة الثورية المكونة الآن بقيادة عبدالعزيز الحلو وياسر عرمان وجبريل وعبد الواحد وعقار وغيرهم حيث كُوِّنت لإسقاط النظام الحالي عسكرياً فهي في موقف مختلف، فقد كانت الجبهة الوطنية تقاوم نظاماً عسكرياً شمولياً، بينما الجبهة الثورية تناطح نظاماً ديمقراطياً محمياً بقوات مسلحة ومليشيات عسكرية وشرطة، والفرق الجوهري الثاني أن النظام الحاكم الآن لا يمانع على الإطلاق في الجلوس معاً والحل سلمياً، ونأمل أن تستجيب الجبهة الثورية لهذا النداء ولصوت العقل والوطن. لماذا السودان منذ استقلاله عام «1956م» وحتى الآن ليس به دستور مستقر وانعكاسات عدم الاستقرار هذا؟ إن عدم الاستقرار السياسي بالسودان، كان نتاجاً طبيعياً لعدم وجود دستور تتوافق عليه القوى السياسية، ويراعي الجوانب الجغرافية والدينية والاجتماعية بالبلاد. وهل تصلح ظروف البلاد الحالية التي يشوبها التوتر والترقب لوضع دستور جديد؟ إذا وضع دستور الآن في ظل هذه الظروف السياسية المعقدة، فلن يُكتب له النجاح، علمًا بأن الدستور الحالي هو دستور انتقالي. انتهت مهمته بانفصال جنوب السودان حيث إنه صدر عقب اتفاقية (نيفاشا) بين شمال وجنوب السودان عام «2005م»، ولكن هذا الدستور ظل صالحاً إلى حين صدور دستور جديد. وما هو بنظرك الحل المثالي لمعضلة الدستور المرتقب؟ كان الأفضل أن يتفق الجميع على صدور إعلان دستوري تشترك فيه كل القوى السياسية، وخاصة الجبهة الثورية حتى يتضمن الدستور النصوص اللازمة لحل الأزمات سياسياً في دستور يتوافق عليه الجميع. حدِّثنا عن حقوق الإنسان في إفريقيا والعالم الثالث ومدى تحققها؟ حقوق الإنسان تعتبر البنية الأساسية للدول والدستور، بل أصبحت ذريعة للتدخل الأجنبي في الشأن الداخلي، ولكن دول العالم الثالث بما فيها السودان لا تحمي حقوق الإنسان بالدرجة التي ينص عليها الدستور والمواثيق الدولية. ما رأيك كدستوري في تكوين حكومة الجبهة العريضة من قبل (المؤتمر الوطني) ومشاركة الأطراف الأخرى في الحكم وهل هذا كافٍ لاعتبار الحكومة ديمقراطية؟ إن الحزب الحاكم الآن «المؤتمر الوطني» عندما يستوعب أحزابًا سياسية أخرى معه في الحكم، فهذا لا يعني أن الحكومة الحالية تطبق الديمقراطية، لأن مفهوم الديمقراطية الصحيح والمعتمَد هو أن تأتي الحكومة منتخبة من حزب الأغلبية. ولكن رغم إشراك الحكومة الحالية لكل الأحزاب بالحكم ودعوتها للحوار المفتوح مع المعارضين مازالت هناك معارضة تطالب بالديمقراطية وتصر على العداوة؟ إن المعارضة عندما تطالب بالديمقراطية وتسمح لها الحكومة الحالية بتلك المطالبة في كل المنابر، فهذا لا يعني ديمقراطية الحكومة وإنما يعني أن هدف المعارضة هو إسقاط النظام الحاكم عسكرياً أو سلمياً، وأن إسقاط النظام الحاكم سلمياً هو جوهر الديمقراطية؟ منطقة أبيي بؤرة التوتر الدائم بين الشمال والجنوب السوداني، مؤخرًا خرجت حكومة جنوب السودان برأي أحادي مفاده أن استفتاء أبيي سيكون في أكتوبر القادم سواء وافق الشمال أم لا؟ لا تستطيع أيٌّ من حكومة جنوب السودان أو شمال السودان أن تنفرد بحل منفصل لمشكلة (أبيي) خاصة أن المشكلة أصبحت دولية، وأن فيها قواسم مشتركة بين الشمال والجنوب. منذ اتفاقية «نيفاشا» عام 2005م حتى الآن هناك مشكلات وملفات عالقة بين جنوب وشمال السودان؟ إن المشكلات العالقة بين دولتي شمال وجنوب السودان، لا بد أن تُحل عاجلاً أو آجلاً، لأن حكومة الجنوب ليس لها خيار غير الشمال، ونحن نؤيد حكومة السودان (الشمالي) في موقفها بضرورة وقف الدعم من قبل حكومة الجنوب للإخوة في الجبهة الثورية، ولها الحق تماماً في وقف ضخ النفط. قواسم مشتركة تجمع بين المعارضة الحزبية وقطاع الشمال رغم إنكارها؟ إن الإخوة في قطاع الشمال ليس لديهم رؤية واضحة تقنع المواطن الشمالي، علماً بأن المعارضة في الشمال تتعاطف مع القطاع وتشترك في هدف إسقاط النظام ولو ادَّعت خلاف ذلك لتجميل وجهها سياسياً وهي أنها تعمل على إسقاط النظام الحاكم سلمياً. تدخل الدولة بالقوة في بعض الولايات لحماية المواطنين من الفئات الخارجية.. التكييف القانوني له؟ المبدأ القانوني ينص على أن سلامة الدولة، والمواطنين فوق القانون، لذلك إذا ما عملت الحكومة المركزية أو حكومات الولايات خاصة في غرب السودان على حماية المواطنين وأرواحهم وممتلكاتهم والمؤسسات العامة، فإنه لا يجوز اتهامها بأنها قدتجاوزت حقوق الإنسان. كونها تصدَّت لفئة باغية ومتمرِّدة هجمت على المواطنين العزل ودمرت مناطقهم. وإن كان التجاوز في هذه الحالة متوقعًا ولكن من الطرف الباغي. رأيك في إنشاء مفوضية حقوق الإنسان بالسودان مؤخراً؟ رغم أن السودان قد كون مفوضية لحقوق الإنسان ولكن تظل قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة الأممالمتحدة موجودة، وهذه القوات الدولية ذات بابين، باب تبدو فيه الرحمة وباب من قِبله العذاب. ... المبدأ الإسلامي والقانوني المستقر هو إن كان من عهد لهما الإصلاح أرادوا التوفيق بين المتخاصمين لحل النزاع، ولكن السؤال الجوهري والمصيري والخطير الذي يطرح نفسه هو: هل جنود الأممالمتحدة والمنظمات الدولية المنتشرون في بقاع السودان بكثرة يريدون إصلاحاً؟؟ بما فيهم قوات حفظ السلام التي لا تستطيع حماية نفسها؟.