الموت نقاد، يختار الأنقياء، ويعجل برحيلهم عن هذه الدنيا الفانية، بيد أنه يصول بلا كف ويسعى بلا قدم. ومع أن كل فقدٍ، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلل، إلا أن موت العلماء والمعلمين ينذر بقبض العلم، ونقص المعرفة، ويُحْدِث ثلمة في مسيرة التربية والتعليم. وعلى أية حال، في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما كنا طلاباً بخور طقت الثانوية، دخل علينا غرفة الدرس، ذات صباح، شاب في مقتبل العمر، بهي الطلعة، وضاح المحيا، يعلو جبينه نور رباني، لا تخطئه البصيرة، تبدو عليه هيبة ووقار، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلى وسلم على معلم الناس الخير، عرفنا بنفسه قائلاً: أنا أخوكم محمد التيجاني الشايب، مدرس الرياضيات. ومن اسمه عرفنا أنه من قرية «مليحة» التي تقع بالقرب من مدينة بارا. لقد نشأ أستاذنا الراحل، رحمه الله رحمة واسعة، في كنف أسرة كريمة كان على رأسها الشيخ الجليل، عبد الرحيم البشير، المعلم ومربي الأجيال، إمام وخطيب مسجد الأبيض العتيق، الذي مات ساجداً في صلاة الجمعة، عليه الرحمة، فلا غرو أن كان ذلك الشاب يستمع إلى القرآن الكريم يتلى ندياً صباح مساء، لينشأ في طاعة الله، ويصبح معلماً رسالياً، يغرس في نفوس طلابه تقوى الله ومحبة رسوله، والصالحين من عباده، ويحثهم على الاستقامة وحسن الخلق بأسلوبه المتميز في التربية والتعليم، ليس في مجال الرياضيات، مادة تخصصه فحسب، بل بسلوكه التربوي الراقي، وقربه من طلابه في كل الأحوال حتى لكأنه واحد منهم، يحس بمشكلاتهم وهمومهم، بتواضع ينسجم تماماً مع شخصيته وسَمَتِه السَمْح. ولكنه غادرنا سريعاً، بعد أن ترك سيرة عطرة، وبصمات واضحة، في مجتمع تلك المدرسة العريقة، وعلمنا فيما بعد أنه كان ملاحقاً من أجهزة أمن مايو حينها. وقد تخرج الأستاذ محمد التيجاني، ضمن الدفعة الأولى في معهد المعلمين العالي، لينضم إلى تلك الكوكبة الفريدة من المعلمين الذين تركوا لنا إرثاً تعليمياً راسخاً لو سرنا عليه لما أصاب التعليم في السودان ما أصابه من تردٍ وضعف واضح في هذا الوقت. ثم جمعتنا ظروف الاغتراب مع أستاذنا الشايب ومجموعة من المعلمين في حي النسيم بمدينة الرياض، حيث حط الرحال هناك في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. ولقد كان شيخنا الراحل، نعم الجار، هو وحرمه السيدة الفاضلة أم عاصم، تجدهما معك في كل مناسبة، وكان، في كل الأحوال المعلم الذي يسعى دوماً لنشر القيم الفاضلة في أوساط من يعرفهم. وعندما أدخلت مادة الرياضيات الحديثة في المدارس السعودية، وكان على المدرسين اجتياز الامتحان في تلك المادة، أحرز أستاذنا الشايب المركز الأول على مستوى منطقة الرياض التعليمية، الأمر الذي رفع رأسنا بوصفنا سودانيين في بلاد المهجر. إلا أن مما يميز تلك الفترة، حلقات التلاوة واللقاءات الأسرية التي كانت تقام من وقت لآخر، ترفيهاً عن الأسر والأطفال، وكان أستاذنا الشايب يعطرها بما ينثر من علم غزير عن السيرة النبوية، بأسلوب المعلم المتمكن حتى حفظ الناس أحداث السيرة، ومازلت أذكر حلقة قدمها ذات مرة عمّا يعرف «بعام الحزن» في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فبكى وأبكى الحضور، وها نحن نبكيه اليوم، رحمه الله. وعندما جاءت ثورة الإنقاذ في عام 1989م، كان لأستاذنا موقف واضح، إذ كان يرى ألا داعي لما قامت به الجماعة من تحرك عسكري للاستيلاء على السلطة، خاصة بعد أن حققت نجاحاً كبيراً في الانتخابات البرلمانية، وأوصلت ما يقارب الستين من أعضائها إلى قبة البرلمان، وشكلت معارضة قوية أكسبتها تأييد الشعب من غير أعضائها، ولذلك كان يعتقد أن الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع من الممكن أن يكون في صالح التنظيم أكثر من الانقلاب العسكري! ولكن بعد أخذ ورد لبى الأستاذ نداء الوطن ليعود جندياً يرفع التمام حيثما دعت الحاجة لخدمة الأمة، لأنه ملتزم بآداب الحركة ولا ينبغي له أن يشق عصا الطاعة عليها. وعاد أستاذنا محمد التيجاني إلى السودان ليشغل مناصب سياسية وتنظيمية عديدة. فقد عمل أميناً عاماً للحركة الإسلامية في شمال كردفان وسار بها سيرة حسنة، فأعاد بناءها وأسس هياكلها، وأبلى بلاءً حسناً حتى تضاعفت عضويتها. وكان له دور مشهود في تنشيط العمل الإسلامي، مبشراً بالمشروع الحضاري، في أوساط الطلاب والشباب والفئات الأخرى. ثم شغل منصب أمين صندوق دعم الشريعة بالولاية، ليتولى تدريب الأئمة والدعاة، ترسيخاً للمبادئ والقيم الإسلامية، ولذلك كان حاضراً في كل المناسبات والأحداث، يشارك الناس أفراحهم وأتراحهم، من منطلق التواصل والتعاضد والتراحم وفقاً للشريعة والمنهاج الرباني. وفي غضون ذلك ظل الأستاذ يقدم حلقات العلم في المساجد وعبر أثير إذاعة وتلفزيون شمال كردفان، وكان المستمعون يحرصون على الاستماع لحلقات برامجه في الأرياف والقرى. ثم شغل الراحل منصب رائد المجلس التشريعي بالولاية، وكان معتمداً لمحلية جبرة الشيخ، ومن بعدها مستشاراً للوالي، وشغل من قبل منصب وزير التربية والتعليم بولاية غرب دارفور، وكان في كل تلك المواقع يقدم القدوة الحسنة لمن يعمل معه أو من يتعامل معهم من المواطنين. أما وقد غيَّب الموت ذلك المربي الفاضل، فإنني أناشد طلابه ومعارفه في كل المواقع التي عمل بها، كما أناشد المسؤولين في الولاية والحركة الإسلامية، أن يخلِدوا ذكراه بإقامة مشروع خيري باسمه، وأن يتعهدوا أسرته من بعده بالرعاية والاهتمام، فقد نذر حياته لخدمة الدعوة، وبذل جهداً مقدراً من أجل وطنه وأمته، فليس أقل من أن نسدي له بعض الوفاء عرفاناً بحقه علينا. وأخيراً يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، وادخلي في جنات الخلد برحمة من الله، وسحائب الرضوان تغشى تربة ضمتك ما نجم يغيب ويطلع، يا أستاذنا محمد الشايب.