أصعب سؤال يواجه العقل المصري منذ قامت ثورة يناير هو معرفة حقيقة ما جرى ويجري في البلد، ذلك أننا شهدنا دلائل متزايدة على تغييب الحقيقة وطمسها، بل وتزويرها في بعض الأحيان. «1» ثمة مقولة شائعة بين الباحثين فى الشأن السياسى تقرر ان الحقيقة هى الضحية الأولى فى الحروب، وهو ما ينطبق بذات القدر على الصراعات السياسية الحادة. لذلك أزعم انها تنطبق تمامًا على ما نحن بصدده فى مصر. ذلك ان الأحداث التى تعاقبت منذ ثورة 25 يناير 2011 تاهت أو التبست فيها معالم الحقيقة. فقد عرفنا ما الذى حدث من خلال الترويج لما وقع من خلال وسائل الإعلام التى قامت بدور رئيسى فى تشكيل الإدراك العام، وبسطت هيمنتها على العقل الجمعى فى ظل الفراغ السياسى. بالتالى فإننا قرأنا إجابات مستفيضة عن السؤال ماذا، إلا انه جرى التعتيم أو قل التلاعب والتدليس فى الإجابة عن السؤالين الكبيرين: من ولماذا. ولأننا لم نعرف من الفاعل ولماذا فعلها فإن الحقيقة بدت مشوهة ومنقوصة. وبالتالى فإننا لم نفهم ما جرى أو فهمناه على نحو مغلوط. سأفصِّل فى شرح ذلك المنطوق وأدلل عليه بعد قليل، لكنى سأتوقف لحظة أمام الحاصل فى مصر هذه الأيام. ذلك ان وسائل الإعلام المصرية جميعها تنقل إلينا كل صباح وعلى مدار النهار أخبارًا وتقارير وصور حوادث الهجوم على الكنائس وأقسام الشرطة وبعض المؤسسات العامة، كما تتحدث عن وقائع قتل وتعذيب وتخريب وقطع للطرق، إضافة إلى معلومات عن أسلحة ثقيلة وذخائر ومخططات إرهابية تستهدف إشاعة الفوضى فى البلاد وتهديد النظام العام. وهذه الحوادث والجرائم كلها تُنسب إلى الإخوان المسلمين، سواء فى تصريحات المسؤولين أو فى وسائل الإعلام، التى تحولت إلى قضاء جديد يقيم الادعاء ويصدر حكم الإدانة وينفذه. دون أن يجرؤ أحد على استئنافه أو نقضه، وإلا حلت عليه اللعنة ولُوحق بالاتهام والاغتيال المعنوى الذى تعد الخيانة أبرز مفرداته وعناوينه. «2» لم نعرف ان تحقيقًا نزيهًا جرى فى تلك الوقائع تحددت بناء عليه هوية الفاعلين، وعلى ضوئه تمت إدانتهم فيما ثبت بحقهم، ولكننا شهدنا محاكمات عبر وسائل الإعلام انطلقت من الإدانة ورتبت عليها التداعيات والأصداء اللازمة. وأشدد على فكرة نزاهة التحقيقات التى قد تبدو بديهية فى الظروف العادية، لكنها ما عادت كذلك فى أجواء التلوث الراهن التى عصف فيها الهوى السياسى بحكم القانون وبمبادئ الحق والعدل. خذ مثلاً واقعة إحراق الكنائس التى حدثت فى الأسبوع الماضى «تراوح عددها بين 7 و17 كنيسة»، واجمعت وسائل الإعلام على ان الإخوان هم الذين فعلوها. رغم ان أمرًا بهذه الخطورة كان ينبغى أن يخضع للتحقيق الذى يحدد المسؤولين عن ارتكاب تلك الجريمة الشنعاء. علمًا بأن أى قارئ لتاريخ الإخوان يعرف جيدًا انهم لم يلجأوا إلى ذلك الأسلوب فى أحلك الظروف التى مروا بها. حتى ان رجال مباحث العادلى لم يجرأوا على توجيه مثل ذلك الاتهام إليهم فى حادث الهجوم على كنيسة القديسين بالإسكندرية «فى آخر عهد مبارك» رغم خصومتهم الشديدة لهم. لأنهم كانوا أكثر خبرة ويعرفون انها تهمة غير قابلة للتصديق. مثل ذلك التحقيق لم يتم لتحديد المتهمين فى مختلف الحوادث الأخرى التى تداولتها وسائل الإعلام، وجرى فيها تعميم الإدانة وغسل أدمغة الناس دون أى دليل. إذ مثلما لم يقبض على أى شخص فى تهمة حرق الكنائس، فإن ذلك تكرر أيضًا فى حالات أخرى تداولت وسائل الإعلام أخبارها تحت عناوين صارخة تحدثت عن تعذيب وقتل واقتحام أقسام للشرطة واعتداء على بعض المبانى العامة، ولم نعرف فى أى منها من فعل هذا. وانما كل الذى تلقيناه كان تقارير وتسريبات وزعتها الأجهزة الأمنية وتناقلتها أبواقها المنتشرة فى المحيط الإعلامى. لستُ أدعو إلى تبرئة الإخوان كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، علمًا بأنه ليس كل المتظاهرين أو المعتصمين من الجماعة وانما أدعو إلى تحديد المسؤولين والفاعلين فى كل جريمة، بعد تحقيق جاد يمهد لمحاسبتهم، ويقنعنا بأننا فى دولة تحترم القانون، ولا تخضع فيها الاتهامات للهوى السياسى. «3» ما حدث فى مصر خلال الاسبوعين الأخيرين من تخريب وفوضى وإحراق للكنائس وهجوم على مراكز الشرطة يعيد إلى اذهاننا سيناريو أحداث ثورة 25 يناير وما بعدها، التى شهدت وقائع مماثلة إلى حد كبير. ولكن تاريخ تلك المرحلة تم طمسه وتزييفه، بحيث أُعيدت صياغته وجرى تركيب وقائعه فى شكل جديد تمت فى ظله تبرئة الجناة وإدانة الأبرياء، فى أخطر وأجرأ نموذج لاغتيال الحقيقة وتشويه الذاكرة عرفته مصر. لحسن الحظ فإنَّ لدينا تقريرَين وثَّقا حقائق أحداث الثورة وعامها الأول أعدَّهما نفر من كبار القضاة والمحققين والباحثين، أفلتا من حملة الطمس والتزييف. صحيح انه تم تجاهلهما ودفنهما، لكنهما لا يزالان بين أيدى الجهات المختصة، وقد أشرت إلى أحدهما فى حديث سابق وقلت انه لو أُتيح له أن يرى النور ويُنشر على الملأ، لرأى فيه الجميع تاريخًا جديدًا مختلفًا عن ذلك الذى تم تزييفه وجرى تعميمه على وسائل الإعلام. أتحدث عن التقرير الذى أعدَّته لجنة تقصى حقائق أحداث ثورة 25 يناير، التى رأسها المستشار عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض «وهو الذى أشرت إلى بعض جوانبه فى حديث سابق»، وقد قدم فى نحو 350 صفحة إلى حكومة الدكتور عصام شرف فى منتصف شهر مارس عام 2011. أما التقرير الثانى فهو الذى أعدَّته لجنة أخرى لتقصي حقائق ما جرى فى أعقاب الثورة، كان قد أصدر الرئيس محمد مرسى فى شهر يوليو 2012 قرارًا بتكشيلها برئاسة المستشار عزت شرباص رئيس الاستئناف الأسبق، وقد قدمته فى نحو 750 صفحة إلى الدكتور مرسى فى شهر يناير عام 2013. وقد علمت من الدكتور سيف عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية الذى كان يعمل مع الدكتور عصام شرف وقت ان كان رئيسًا للوزراء أن المشير محمد حسين طنطاوى رئيس المجلس العسكرى آنذاك طلب عدم إذاعة مضمون التقرير الأول. وقال لى الدكتور سيف إن الدكتور شرف هو الذى أبلغه بذلك. أما التقرير الثانى فقد قيل لى إن الدكتور مرسى أحاله إلى النائب العام وآثر عدم نشره، وان الجزء الخاص بمسؤولية الشرطة العسكرية عن أحداث ماسبيرو حُذف منه. «4» دلنى المستشار عادل قورة على خلاصة كان قد أعدها لتقرير اللجنة الأولى نُشرت على شبكة التواصل الاجتماعى. وقال لي المستشار عزت شرباص إن ثمة خلاصة لتقرير اللجنة الثانية وعدنى بتمكينى من الاطلاع عليها. وفهمت من المستشار محمد فؤاد جاد الله الذى كان مستشارًا قانونيًا للدكتور مرسى أن التقرير الثانى تضمن وقائع جديدة وأدلة دامغة من شأنها ان تعيد النظر فى العديد من القضايا التى عُرضت على القضاء وفى تحريك الدعوى ضد بعض المتهمين الجدد من المسؤولين السياسيين والأمنيين. من الخلاصات المهمة التى ذكرها التقرير الخاص بأحداث الثورة انه «تبين للجنة ان رجال الشرطة أطلقوا أعيرة مطاطية وخرطوشًا وذخيرة حيَّة فى مواجهة المتظاهرين أو بالقنص من أسطح المبانى المطلة على ميدان التحرير، خاصة من مبنى وزارة الداخلية ومن فوق فندق النيل هيلتون ومن فوق مبنى الجامعة الأمريكية، وقد دل على ذلك أقوال من سئلوا فى اللجنة ومن مطالعة التقارير الطبية التى أفادت ان الوفاة جاءت غالبًا من أعيرة نارية وطلقات من خرطوش فى الرأس والرقبة والصدر. علمًا بأن إطلاق الأعيرة النارية لا يكون إلا بموجب إذن صادر عن لجنة برئاسة وزير الداخلية وكبار ضباط الداخلية». وهى شهادة تدين الشرطة فى جرائم القتل والقنص كما تدين وزير الداخلية، ومعلوم أن الجميع تمت تبرئتهم من تلك الجرائم، وجرى الترويج لادعاءات اتهمت «الطرف الثالث» بعملية القنص التى نفت الداخلية أية صلة بها، وأقحمت حركة حماس فى التهمة لصرف الانتباه عن دور الشرطة، فضلاً عن ذلك فقد تضمن التقرير معلومات خطيرة عن تواطؤ الشرطة مع فلول النظام السابق والبلطجية فى موقعة الجمل، وعن ملابسات فتح السجون ودور الشرطة فيها، كما انه شكك فى واقعة هروب المسجونين والمحتجزين من سجن وادى النطرون وهى الاسطورة التى نسجت من حولها أساطير استندت إليها محكمة استئناف الجنح التى اتهمت الإخوان وحماس وحزب الله باقتحام السجن. أثناء البحث عن محتوى التقرير الثانى الذى ركز على أحداث العام الأول للثورة، وقعت على شهادة لأحد أعضاء لجنة تقصى الحقائق التى رأسها المستشار عزت شرباص، وهو الأستاذ أحمد راغب المحامى، «ناشط حقوقى لا علاقة له بالإخوان». وقد نشرتها له جريدة «الشروق» فى 6 يناير 2013، أى بعد أيام قليلة من تسليمه إلى رئيس الجمهورية. ووجدت أنه ذكر أن من الخلاصات المهمة التى انتهت إليها اللجنة أن «القوات المشاركة فى التصدى للمتظاهرين والمعتصمين سواء من الشرطة أو القوات المشاركة استخدمت الأسلحة النارية والخرطوش فضلاً عن استخدام ذات القوات لأفراد يرتدون الزى المدنى فى التصدى للمتظاهرين والاعتداء عليهم. وقد كان بعض هؤلاء المدنيين فى عدد من الوقائع يحملون الأسلحة البيضاء والزجاجات الحارقة «المولوتوف». كذلك ذكر الأستاذ راغب أنَّ من أهم ما توصلت إليه اللجنة «انه لا وجود لطرف خفى يقتل المصريين «فى المظاهرات». فما توصلت اللجنة من نتائج وحقائق فى جميع الوقائع والأحداث التى عملت عليها ثبت من خلالها ان هناك طرفين لا ثالث لهما هما المتظاهرون وأجهزة الدولة المختلفة. لقد خضعت كل أحداث الثورة للتحقيق من جانب اللجنتين اللتين استعانتا بأكثر من 70 باحثًا ومحققًا، تحت قيادة عدد من أبرز القضاة فى مصر، ولكن الشهادات التى خلصوا إليها تم تجاهلها وتمت تبرئة الذين اتُّهموا بقتل المتظاهرين وأثاروا الانفلات الأمنى والفوضى لإجهاض الثورة. من ثم نجحت الدولة العميقة فى إهالة التراب على تلك التحقيقات، فى حين قدمت لنا تاريخًا مغايرًا روجت له وسائل الإعلام، لكن ذلك ينبغى ألا يثنينا عن المطالبة بتقصى حقائق المذابح والجرائم التى شهدتها مصر فى الآونة الأخيرة، إذا لم يكن لكى نفهم ما جرى، فعلى الأقل لكى يُتاح للأجيال القادمة ان تطالع تاريخ تلك الفترة بغير تشويه أو تزوير. لست واثقًا مما إذا كانت السلطة القائمة فى مصر الآن تملك شجاعة اتخاذ هذه الخطوة، لسبب بسيط هو انها تمثل الطرف الآخر فى الأزمة. لذلك فإن سؤالى لا ينصب على ما يمكن ان تكشف عنه تلك اللجنة فى بحثها عن الحقيقة، ولكنه حول ما إذا كان سيُسمح بتشكيلها أم لا. ولا ننسى فى هذا الصدد اننا قرأنا ان لجنة مماثلة ستُشكَّل للتحقيق فى أحداث مذبحة الحرس الجمهورى التى وقعت فى 11 يوليو الماضى وقُتل فيها أكثر من «50» شخصًا، ولكن أربعين يومًا مضت ولم ترَ اللجنة النور. وهو ما لا يجعلنا نتفاءل بان تفلت الحقيقة بدورها من المذبحة. كوتيشن أدعو إلى تحديد المسؤولين والفاعلين فى كل جريمة، بعد تحقيق جاد يمهد لمحاسبتهم، ويُقنعنا بأننا فى دولة تحترم القانون، ولا تخضع فيها الاتهامات للهوى السياسي.