صديق عزيز ما أن أكمل دراسته الجامعية حتى انهالت عليه النصائح أن يتزوج ليكمل نصف دينه، إذ أنه الآن يعيش ويمشي بين الناس بنصف دين فقط. وذات يوم وهو يصطحب زوجته التي رافقته تلك الرحلة الطويلة ذات الثلاثين عاماً وقد ظهرت عليها مظاهر شيخوخة معتبرة اختلطت فيها الشلوخ وضمرت، قابل صديقاً آخر من الذين كانوا يقاومون فكرة الزواج لزمن طويل ولكنه أخيراً رضخ فتزوج وجاءت أخبار زواجه في الصحف أن ركناً عاتياً من أركان العزوبية قد انهدَّ. وبما أنه قد تزوج هذه الأيام فبنات هذه الأيام يختلفن عن نساء تلك الأيام التي تزوج فيها صديقنا الأول. المهم في الموضوع أن صديقنا الأولانى عندما قابل صديقنا الآخراني وهو يصطحب معه زوجته التفت الى زوجته مقدماً صديقه: أخونا الدكتور فلان الفلاني... ودي عروسه.. غايتو هو صبر والله أداه. السؤال: هل الشيخوخة أو الوقوف على أعتابها أمر مخيف ويدعو الى القلق والاكتئاب؟ أنا شخصياً تعاملت مع شيخوختي بالكثير من الواقعية. ففي السادس من يناير من هذا العام احتفلت بمرور ثلاثين عاماً على عيد ميلادي الأربعين. ومررت بهذه اللحظة وكأني ماري عند الأصيل وحدي بشارع النيل. ولم يشغل الإنسان شاغل مثل التفكير في تقدم العمر وبذل الجهد العلمي الخارق وغير العلمي في إعادة عقارب الساعة للوراء. وستجد الكثير في «مجربات الديربي الكبير» وفي «الرحمة في الطب والحكمة» وفي «شرح المحتاج في حقوق الأزواج» وفي «الباه ورجوع الشيخ إلى صباه» وحتى في كتاب «الجواهر اللماعة في استحضار ملوك الجن في الوقت والساعة» وغيرها.. وهذا كله كوم وما يجيء في البريد الإليكتروني من وصفات تزيل التجاعيد وتنفخ الدماء في جميع الأوردة والشرايين المعطلة كوم آخر. وجاءت صرعة الميلاتونين Melatonin وكأنما كان الناس على موعد معه .... فقد انتشر انتشار السودانيين في الخارج.. وأقبل كل الذين وخط الشيب رؤوسهم يتدافعون لشراء كبسولاته .. فلا أحد يريد أن يقع فريسة للشيخوخة.. وهي المحطة الحتمية التي تنتظر كل فرد هذا إذا لم ينقل على آلة حدباء قبل أوانه. الرجال يقطعونها في أمعائهم وهم يرون شعرهم يتساقط ونظرهم يضعف وحيلهم لا يشيلهم إلا من كرسي إلى كرسي. والنساء يصبن باكتئاب خرافي وهن يشاهدن في فزع كيف تزحف التجاعيد على ذلك الوجه النضر فتحفر فيه أخاديد وودياناً. والجميع يبقون في انتظار أن تحدث المعجزة ويكتشف العلم ذلك الإكسير الحياتي الرهيب الذي يعيد الشيخ إلى صباه وينسى العاقل جناه .. ويزيد للعاشق ضناه. في الزمان القديم كانت الأقاويل تحكى عن مرارة الذئب مع الكافور الطيار الذي تضاف إليه الكابسنده ويتناوله الشخص علي الريق .. فتجرى في جسمه شرايين الحياة وينصلح حال السباكة الداخلية وتعود المياه إلى مجاريها وتتورد الخدود وتختفي التجاعيد.. ولكن مع كثرة استعمال تلك الوصفات وفشلها في أحداث المعجزة اتجه الناس إلى وصفات جديدة. والغريب في الأمر أن إخوتنا السودانيين لم يقف بهم الحال في البحث عن وسائل تعيد شبابهم بل أخذوا في الآونة الأخيرة يبحثون عن الزئبق الأحمر بوصفه أحد الوسائل التي تعيد للشيطان شبابه ورشفة واحدة من الزئبق الأحمر تعيد الشيطان ألف سنة للوراء، ومقابل ذلك يتعهد الشيطان بأن يملأ لهم غرفة كاملة من الدولارات الأمريكية كما يزعمون.. ولذلك انطلق أخوان البنات يبحثون عن الزئبق الأحمر ومن ورائه يبحثون عن غرفة من غرف الاحتياطي الفدرالي المركزي الأمريكي. إذاً الأمر لا يقتصر على بني البشر فالشياطين نفسها تبحث عن ذلك السر الذي يعيدها إلى شبابها. ولا أستطيع أن أتصور شيطاناً كهلاً لأن أي شيطان حتى ولو كان في عمر يوم واحد «ما بتقابل». ومنذ زمن بعيد اكتشف علماء التشريح جسماً يقع في منطقة من المخ يعرف بالجسم الصنوبري PINEAL BODY تفرز غدته مادة تعرف بالميلاتونين الذي يبدأ في الازدياد تدريجياً حتى يصل أوجه في سن العشرين ثم يبدأ إفرازه في التقلص... وقد لاحظ العلماء في فئران التجارب أن حقن الفئران المسنة بذلك الإفراز يجعلها أكثر حيوية ويعيد بعض خلايا الجسم إلى نشاطها السابق.. ولاحظوا أيضاً أنه يعطى الأشخاص الذين يتناولونه ليلاً نوماً عميقاً يضع الجسم كله في حالة استرخاء كاملة يصحو بعدها الشخص وقد استرد كثيراً من نشاطه.. والذين يحلمون بإعادة الشباب وجدوا في تلك المادة ضالتهم فسرعان ما تلقفتها صحف التابلويد وروجت لفوائدها التي تقضي على التجاعيد وتحسن الذاكرة وتطلق الجسم وتشد الترهل. وسمحت هيئة الأغذية والعقاقير الأمريكية بتسويقه ووصلت مبيعاته في منطقة الشرق الأوسط وحدها إلى ثلاثة بلايين دولار.. وهذه الأموال هي حجم التطلعات لبشرية الشرق الأوسط التي تحلم بهزيمة الشيخوخة. وقد التقطت الصيحة الدكتورة هالة سرحان في برنامجها التلفزيوني وروجت لذلك العقار العجيب. واختلفت الآراء حول الميلاتونين .. وبعض الجهات العلمية تقلل كثيراً من أهميته كعلاج وتنادي بإيقافه وتقول إن الميلاتونين موجود بصورة طبيعية في البيض واللحوم والموز وعدد من الخضروات والإنسان لا يحتاج له بتلك الكميات الموجودة في الكبسولات .. أما المتفائلون فيقولون إنهم قد جربوه ووجدوه خير صديق لمكافحة الشيخوخة وأمراضها.. ولكن لكي نقهر الشيخوخة فيجب أن نعرف ما هي الشيخوخة أولاً.. لقد ظهرت مصطلحات جديدة فالمسنون هم جيرياتركس GERIATRICS وعلم دراسة الشيخوخة هو جيرنتلو جي، وقد نشرت مقالاً من قبل في كتابي «طبيعة الأشياء» عن هذا الموضوع وأثرت عدداً من الأسئلة: الشيخوخة ذلك القطار الذي ينقلنا سريعاً إلى الدار الآخرة هل يمكن هزيمتها ؟ لحظات الضعف الجسماني والوهن وخراب الذاكرة والخرف هل يمكن تلافيها؟ هل يصبح بإمكاننا في المستقبل أن ننعم بشيخوخة خالية من الأمراض؟ هل صحيح أن الكلاب طويلة الأعمار؟ وأن الذين يتشبهون بها ينعمون بطول في أعمارهم؟ وما الفائدة من محاولات إطالة أعمارنا.. وهناك من يرد إلى أرذل العمر فلا يعلم بعد أن علم شيئاً؟ ولنحاول الاقتراب من الموضوع. متوسط عمر الإنسان الآن لا يتعدى ستين سنة.. ومن المتوقع أن يرتفع إلى سبعين سنة في عام 2020م، فالأمراض مثل الديفتريا والسل الرئوي والجدري والطاعون التي كان تفتك بالناس قبل أن يتعدوا مرحلة الشباب لم تعد ذات أثر كبير. وأول ظاهرة نلاحظها هي أن كل نوع من الأحياء له عمر محدود، فحشرة الايفيميرا أو ذبابة مايو بالرغم من أنها تعيش سنين طويلة تصل إلى أربعة عشرة عاماً وهي في طور اليرقة إلا أنها عندما يكتمل نموها وتصبح حشرة كاملة لا تعيش إلا سويعات. وتخرج من الأرض تبحث عن زوج تتلقح منه فتبيض وتموت وهكذا تنتهي مهمتها الأساسية في الحياة. وتعيش الضفدعة سبعة أعوام ويعيش الكلب وقد زعم انه طويل العمر خمسة عشر عاماً وتضعف دورته الدموية ... ويقضي معظم وقته نائماً تحت الزير حتى يدركه الموت. ويصل عمر الفيل الى سبعين عاماً . اما الاعتقاد بأن السلحفاة تعمر حتى يصل عمرها الى أربعمائة أو خمسمائة سنة فهو اعتقاد خاطئ، فقد يصل عمر السلحفاة الى «90» عاماً ولكنه لا يزيد. وبقي الانسان الوحيد الذى يتعدي عمره احياناً المائة عام. ويقول صاحب كتاب جينيس للارقام القياسية: ان الذين تتعدى أعمارهم المائة عام في جميع انحاء العالم عددهم ضئيل جداً.. بالرغم من أن السوفيت قد ذكروا أن هناك مائة مواطن سوفيتي تتراوح اعمارهم بين مائة وعشرين الى مائة وستين عاماً. وفي الولاياتالمتحدة يحتفل الأمريكيون بذكرى وفاة الجنرال والتر ويليامز الذي توفي في هيوستون في ولاية تكساس في التاسع عشر من ديسمبر عام 1959م، والذى كانوا يعتقدون أنه اكبر معمر امريكي، إذ أنه ولد عام 1842م، وانه قد اشترك في حرب عام 1861م التي بموجبها اقرت ولاية تكساس منحه معاشاً قدره مائة وخمسة وثلاثين دولاراً في الاسبوع. ولكن بعد بحث وتقص للحقائق اتضح ان عمر الجنرال ويليامز كان خمسة اعوام عندما نشبت حرب 1861م، ولا يمكن بأى حال من الاحوال ان يكون قد اشترك فيها. ولتحطيم الرقم القياسي أذاعت وكالة أنباء صينية في الخامس من مايو عام 1933 عن وفاة معمر صيني هو المستر لي شنق يان زعم أنه ولد عام 1680 وتوفي عن عمر بلغ 256 عاماً. والحقيقة الجوهرية التي تبقى بعد غربلة كل هذه المزاعم هي ان هناك بعضاً من الناس يتجاوزون المائة عام، وانهم يبقون نشطين اقوياء حتى وفاتهم. فما الذى يجعل معظم الناس يهرمون ويشيخون في منتصف الطريق؟ وما الذى يجعل بعضهم يقاومون الشيخوخة؟ إن معظم الناس يمشون ويتكلمون في عمر ثابت وانهم يبلغون مرحلة النضج في سن ثابتة أيضاً. وأن أجهزة الجسم المختلفة تصاب بالشيخوخة في سن ثابتة معلومة، ففي العشرينيات يبدأ انتاج الهرمونات ويقل تدريجياً، وفي الثلاثينيات يقل استهلاك الرئتين من الاوكسجين ويتدفق الدم بسرعة اقل من المعدل العادي عبر تلك الأميال من الأوعية المنتشرة في أنحاء الجسم. وعندما يبلغ الشخص الأربعين ربما يلاحظ أن جهازه البولي قد اضطرب وذلك لاضطراب عمل الكليتين. فماذ يحدث بالضبط؟