أنا شخصياً لا تخيفني سن المائة أو توابعها.. فيمكنك دائماً أن تبقى شاباً في سن الخمسين ولا تتجاوزها. والعملية في غاية البساطة، فمثلاً يمكنك أن تحتفل بمرور خمسين عاماً على عيد ميلادك الخمسين. وتظل السنوات تجري والناس يتحرون هلال رمضان وهلال شوال وأنت تتحرى عيد ميلادك الخمسين وعقبال المائة شمعة التي لن تعنيك من قريب أو بعيد. وأنت تترنم بقول الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب «بزوجتي» وفي الحقيقة فإن الاحتفال بعيد الميلاد تقليد جاءنا في السنوات الأخيرة فأبناء جيلي جميعهم قد ولدوا قبل الميلاد «عندما لم تكن هناك شهادات ميلاد» ومن هم من قدماء السودانيين على وزن قدماء المصريين.. وليس فيهم من يمكن أن يدعي أن والده قد أقام له حفلاً لعيد ميلاده الأول مثلاً أو العاشر لأنهم ولدوا أثناء الحرب العالمية الثانية ولكن كل الذي يدركه أبناء جيلي أن هناك حفلاً أقيم في العام السابع لميلادهم لأمور تتعلق بإزالة بعض الشوائب والتي هي الفاصل بين عهد الطفولة وعهد الصبا.. والتي يشيرون إليها بالختان. وعليه فلم تكن هناك حفلات لأعياد الميلاد أو ما شابه ذلك فالأمر إذن جاءنا حديثاً وأصبح الناس يعوِّضون ما فاتهم من تلك الاحتفالات في احتفالات خاصة بأطفالهم ولهذا تمتلئ أخبار المحليات في الصحف بصور البراعم وهم يطفئون عدداً من الشمعات. وأنا شخصياً وجدت نفسي أنني سأرهق الجيران وأطفالهم إن احتفلت بعيد ميلاد أبنائي وبناتي.. فلا يمكن مثلاً أن تدعو أطفال الجيران ونحمّلهم فوق طاقاتهم من الهدايا وذلك للحضور لمنزلنا أيام 18/8 و26/8 و4/9 و 11/11 و2/12م.. كل ذلك في فترة أربعة أشهر.. فأطفالي قد تزاحموا في تلك الشهور الأربعة والغريب في الأمر أنهم كلهم لم يخرجوا عن الجمعة والسبت والأحد.. وبما أن كل شيء بأمر الله والأعمار بيد الله، فقد قرر بعض القوم الثبات على عمر واحد لا يتعدونه مهما كانت الظروف فالزمن يتقدم ولكن أعمارهم واقفة في مكانها لاتتزحزح عنه قيد أنملة.. وعندما كان الدكتور بطرس غالي يستعد لترشيح نفسه لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة صرّح بأنه في التاسعة والستين من العمر. قال أحد المعلقين الأمريكيين الخبثاء: - منذ أن عرفت الدكتور بطرس غالي فإن عمره لم يتعدَ التاسعة والستين وأنا على ثقة من أنه لن يتخلى عن ذلك بسهولة، وقد ظل الدكتور بطرس غالي في منصبه إلى أن فارقه وهو في التاسعة والستين. - والدبلوماسية والكياسة والذوق الجنتلماني يتطلب أن تتذكر عيد ميلاد زوجتك فتحضر لها هدية قيمة ولكن ليس من الكياسة والذوق السليم أن تذكر عمرها، وهذه مشكلة جميع أصدقائي الذين رزقوا بأحفاد لأنهم بين عشية وضحاها وجدوا أنفسهم متزوجين من حبوبات. اكتشفت أن جميع السودانيين وبما أنهم مولودون يوم 1/1 فإنهم يكبرون سنوياً بداية كل عام ميلادي إلا أن هذا ليس في صالحهم فجميع الفساتين والثياب تصبح موضة العام الماضي وعليهم معالجة ذلك، إلا أن هناك دلائل واضحة تتعلق بالتقدم في السن.. فهناك أمران رئيسان: الأمر الأول، هو أن تصبح ذاكرة الإنسان خربة ضعيفة وأن ينسى بسهولة كل الأمور القريبة، فهو لا يتذكر مثلاً أين قضى ليلة البارحة.. فإذا لاحظت أنك قد أخذت تنسى بأكثر مما تستوعب فأعلم أن للسن أحكاماً وأنك قد دخلت مرحلة العد التنازلي، فالنسيان هو البند الأول في دلائل تقدم السن.. أما البند الثاني ..ا .. ا.. آسف فقد نسيته. - قال لي أحد الأصدقاء إن زوجته تتمتع بذاكرة «بطالة جداً» فقلت له: - يعني بقت تنسى؟ - قال: - بالعكس بقت تتذكر!! ومن ناحية أخرى إذا لاحظت أو لاحظ الآخرون أنك صرت متشعباً في حديثك.. تبدأ الحديث عن الاستفتاء وقبل أن تصل إلى نهاية الحديث تقفز إلى سعر الجنيه السوداني والدولار ثم تعرج على موضوع أبيي وتنطلق إلى أسعار العربات «تعشيقة تحت» وقبل أن تضع التعشيقة فوق تزحف على هلال مريخ وأسعار الخراف وربط الكهرباء بالماء ثم النشرة الجوية، فأعلم أن قدرتك على التجميع قد تقلصت وخاصة إذا كنت تضيف لكل فقرة من فقرات حديثك أن الشباب الحقيقي هو شباب الروح وشباب القلب.. لأنك بهذا تكون قد أعلنت للجميع أنك قد خرجت من إطار الشباب العملي إلى الشباب النظري.. وخير لك ألف مرة أن تسرح الشعيرات البيضاء التي على رأسك تسريحاً يليق بها من أن تظل باقي عمرك تلعن الحناء المغشوشة. وهناك معضلة تواجهني شخصياً فإن شعر رأسي أخذ يتساقط وتزحف عليه صلعة صحراوية معتبرة، وأنا كل يوم أمسح فروة رأسي بمستحضر يشجع الشعر على النمو.. ثم أحلق ذقني كل صباح فلا الشعر رضي أن ينمو على رأسي ولا شعر ذقني تخلى عن نموه.. حكاية عجيبة.. وقد قيل إن الرجل المصاب بالصلعة من الأمام رجل مفكر.. والذي يصاب بالصلعة من الخلف.. فهذا رجل يحب .. أما الذي يصاب بالصلعة من الأمام إلى الخلف فهذا رجل يفتكر أنه في حالة حب. في الزمن القديم كان هناك نوع من العربات الصغيرة يسمى «البرنسة». نورين تزوج بنتاً صغيرة على زوجته التاية. فقرر أن ينقل لها الخبر.. جاءها فوجدها في «التكل» وأمامها الدوكة. فقال لها: - هوي يا التاية.. الليلة بدور أحدثك.. أنا يا ختي جبت لي برنسة.. أجابته دون أن ترفع رأسها من الدوكة: - إن شاء الله تلقالا سواق!! وأخيراً لا تبتئس يا صديقي ولا تحزن فخير الأشجار ما كان كبيراً... وبه كعاكيل.