.. ولو كنتُ نظاماً حاكماً، لكان أول ما أفكِّرُ فيه أن أحكُمَ شعباً قويَّاً... - وكيف تُودَعُ القُوَّةُ في إفئدة الشعوب؟ بالتدريب العسكري؟ بتعريضها إلى المشقة في المعاش؟ بتغذيتها جيداً بالأطعمة الغنيَّة؟؟.. - لا.. بتعليمها أن تقولَ لي أنا الحاكم : «لا»، حين تكونُ «لا» هي الكلمة المناسبة... - كلهم يقولون ذلك.. كل الحكام يزعمون أن شعوبهم حرَّة في أن تقول لهم «لا» ، وكلهم يؤكدون أن شعوبهم لم تقلها لأنها لم تجد سبباً لقولها!!.. - لأنهُم كلهم يخافون الشعوب القوية، ولأنهم، جميعهم، يظنون أن الشعوب قاصرة تحتاج إلى من يتحدث باسمها ومن يفكر لها ومن يرعى مصالحها ويحميها من حماقاتها..! - ولماذا تكونُ أنت استثناءً؟ لماذا تظُنُّ أنك وحدك الذي لا يخاف الشعب القوي؟؟.. - لأنني عشت حياتي كلها في خانة «الشعب»، وأعرِفُ أن مصارع جميع الحكام تصنعُها الشعوب الضعيفة الخائفة، وليس الشعوب القوية الواثقة!! - أتزعُمُ أن الشعبين المصري والتونسي، حين صرعا مبارك و بن علي، كانا ضعيفين و«خائفين»؟؟.. - قوَّة الشعوب الحقيقية لا تتبدَّى في خلعها حُكَّامها ولا في قتلهم أو حبسهم .. القوة الحقيقية، يا شيخ، هي قدرة الشعوب على الاحتفاظ بحُكَّام «مؤدبين»، يحكُمونها بإرادتها، ولا يجرُؤون على احتقارها، ويلتزمون بالقانون رغم أنوفهم، ويذهبون حين يذهبون بشرفهم و إرادتهم و«موافقة» الشعب!!.. - وماذا تفعلُ الشعوبُ الضعيفةُ الخائفة، إذاً ؟؟ - تلجئها ردَّات فعل «الضعيف الخائف» وغريزة «حُبُّ البقاءِ»، التي أودعها الخالق في كُلِّ حيٍّ، حتَّى في أدنى الحيوانات مرتبة، تلجئُها إلى اليأس، واليائس يستطيع بعد يأسه أن يفعل الكثير، ولكن دون وعيٍ مكتمل، ودون اعتناءٍ بإجابة السؤال الجوهري : ثم ماذا؟؟.. لقد انتحر البوعزيزي، يأساً، فتبعهُ الشعبُ التونسي في مغامرةٍ انتحارية، ذهبت ببن علي في فورة غضبٍ يائس، ولكن لم يكُن أحدٌ منهم يدري، حتى ساعة فرار بن علي، من الذي سوف يحكم تونس، وكيف؟؟.. القوة التي أعنيها لو كانت توفرت في الشعب التونسي، لما اضطرَّ إلى خلع بن علي، بل إلى إلزامه الجادَّة، وقهره على النظافة منذ أول يوم.. الشعب المصري بلغ به الخوف والرعبُ من بشاعة نظام مبارك حد اليأس، كل فردٍ فيه قال : «وماذا يُمكنُ أن يحدث لي أكثر من هذا؟».. لا أحد من الثائرين كان ينظُرُ إلى ما هُو أبعد من رحيل مبارك، بل وقتله أو محاكمته إن أمكن ، أما المستقبل، فأمرٌ متروكٌ للقدر.. لولا الضعفُ والخوفُ لما تمكن مبارك من فعل ما فعل حتى يتم طردُه!!.. و الآن ، لا أنزعِجُ لشيءٍ انزعاجي لحال موظفين وموظفات ببعض مؤسسات الدولة، ابتلاهُم الله بمديرين فراعنة وفاسدين، يقول لنا بعضُهُم إنَّهُ يُضطَرُّ بأمر المدير إلى مخالفة كل اللوائح، إلى تمرير الفساد من تحت يديه، دون أن يجرؤ على الكلام.. - لماذا لا تجرؤ على الكلام؟ لماذا لا تبلِّغ الجهات المختصة؟ لماذا تكون شريكاً في الفساد؟؟ - لأنني «خائف».. لأنني لا أثق في «حماية» تلك «الجهات المختصة» من غضب المدير، سوف ينقطع رزق أولادي، وربما لفّقوا لي تهمةً ما، والمؤكد دائماً هو أنني سوف أُطرد من عملي، وأتشرَّد.. هل تعرفُ «فلان»؟.. لقد تصوَّرَ أنَّ اعتراضهُ على «توقيع» يُبارك فساد مديره، هُو واجبٌ مقدس.. ولكن رعايتهُ هذا الواجب المقدس أفقدهُ وظيفته، هُو الآن متشرِّدٌ كلما تقدّم للعمل في مكانٍ ما، سبقتهُ إلى هناك نقمة المدير ذي الصلات الواسعة، و تحذيره من توظيف «أفعى».. هُو الآن قابعٌ في بيته، يعاني الفقر والذل، ويعاتب نفسه كيف لم يلجأ إلى «فقه الضرورة» فيحافظ على وظيفته ورضاء مديره الفاسد!!.. هل تعرِفُ «فلانة».. لا.. دعك من هذه.. كم هو بشعٌ أن يكون الحاكمُ الأعلى صوتاً والأكثر مهابةً هو «الخوف».. لو كُنتُ نظاماً حاكماً، لما رضيتُ أن أحكُم شعباً خائفاً.