شغلت حاضرة جنوب دارفور مدينة نيالا ولم تقعدها على كثرة الأزمات والمشكلات التي انطوت عليها خلال الفترة الأخيرة، فهي لم تتعافَ منذ أن فارقها واليها الأسبق عبد الحميد موسى كاشا حيث غاب عنها الأمن والطمأنينة وما كان له أن يغيب وهي المدينة التجارية الكبرى في السودان، وهي صاحبة الحظ الأوفى في العبارات والتسميات الجميلة ويكفيها أنها نيالا «البحير».. نيالا تاهت من بين مشكلات دارفور المتعددة وتراجعت إلى الوراء حين غفلة الجميع وتعرضت لتجاوزات واختراقات أمنية مباشرة مرة بنهب أحد بنوكها ومرة بنهب مرتبات موظفي وعمال وزارة الزراعة والثروة الحيوانية، وأن يكون مرتكبو هذه الجرائم والمتورطون فيها يمارسون هذه الأعمال نهاراً فهذه مصيبة كبرى..!! نيالا أصبحت حضانة أزمات خلال فترتها الأخيرة بعد تولي زمام الأمور فيها اللواء آدم محمود جار النبي وتكاثرت مشكلاتها الأمنية وشهدت حالات انفلات أمني غير مسبوق في تاريخ المدينة التي شكلت بوتقة انصهار اجتماعي وثقافي لكل أهل السودان من خلال الحركة التجارية التي عُرفت بها في مسيرتها الطويلة.. أن يُقتل شخص ويُمثل بجثته ويقتل نظامي آخر ويُقتل رجل هو وزوجته بمنزلهما وزوجته حبلى، يحدث كل هذا في توقيت متقارب وزمن وجيز بشكل شوَّه الصورة الذهنية للمدينة المتسامحة وحكومة الولاية لا يطرف لها جفن وتصدر شيئاً يكشف إحساسها بمعاناة الناس هناك من عدم الأمن حتى ولو بمؤتمر صحفي تنتهز فيه الفرصة لتظهر تعاطفها مع مواطنيها المغلوبين على أمرهم!! وعلى كثرة المشكلات الأمنية وهواجسها وفي مؤتمر محضور معني بتطوير الأداء في وزارة التخطيط العمراني يُصدر واليها الجنرال جار النبي عبارة مشهورة قائلاً: إنه لم يأتِ للترشح مرة أخرى ولكنه أتى لمهمة محددة دون أن يُفصح عنها غير أنه أردف حديثه بالقول: إن ولاية جنوب تحتضر».. المؤسف بعد هذه الكلمات بوقت قليل جاء النبأ بمقتل رجل الأعمال إسماعيل وادي وابن أخته، التقارب بين الأحداث جعل الجميع يشككون وكأن التقارير الأمنية الخاصَّة كشفت للجنرال شيئاً ما يتحرك من بين الأشياء غير أنَّه لم يتعامل معه بالقدر المطلوب حتى سقط الفأس على الرأس ووقع ما كان يخشاه الجميع.. لو أن أحداً تعقَّل وفكَّر حول الوقائع والأحداث لأدرك أن خيوطاً يتم نسجها بخيال من قبل بؤر الصراع وهو أمرٌ يتطلب احترازًا وحذرًا لكن لا أحد هناك يفعل شيئاً وكأنَّ الأمر لا يعنيهم.. كل الدلائل والإشارات والإرهاصات كانت تشير بل معلومات مؤكدة توفر أنه بعد مراسم تشييع «وادي» هناك مجموعات سياسية وربما عسكرية تنوي فعلاً لتشتعل نيالا لكن كل الذين حول «الجنرال» يمرحون ويسرحون في خيالاتهم دون أن يستفيد أحد من الأخطاء ليضع التدابير والتعزيزات لكنها لم تتم ولم يفكر فيها أحد حتى انفلتت المدينة وبلغت ذروتها عند باب مكتب الوالي نفسه وأُحرقت سيارته الخاصة ومعها عدد من عربات أمانة الحكومة، وأُجليت الموظفات من مكتبه السري عبر انتشالهن إلى خارج المبنى بثوب ثم أُجلي هو بقوة عسكرية، أين كنتم حتى يحدث كل هذا؟! بعض الذي جرى في مظاهرات نيالا كان واضحاً ومعروفاً لكن سعادة رئيس اللجنة الأمنية بالولاية لم يولها اهتمامًا بحسب حديث الأهالي والمراقبين هناك إذ إنه ظل ينظر بعين الرضا وعدم أمانة الجميع وهذه فسرها البعض من حرصه على إصدار التصديقات لكل ما يتعلق بأمانة الحكومة بنفسه دون أن يترك لأمين الحكومة ما يصادق عليه، كما أن الجميع في نيالا يتحدثون عن انشغال الوالي بالصغائر والتفاصيل الصغيرة التي ينبغي أن تترك للوزراء والموظفين الكبار ويتفرغ هو لمشكلات الولاية الكبيرة.. البعض في جنوب دارفور يرى أن الجنرال حاصر نفسه بدائرة شورى وعمل ضيقة متمثلة في معتمد رئاسة وآخر معتمد محلية، وهي واقعية جعلت البعض يقول إن جنوب دارفور بكل ثقلها وتاريخها تُدار الآن بواسطة شخصيتين، ما هكذا تدار جنوب دارفور سعادة الجنرال، والجميع ينتظر منك وجهًا جديدًا يُحدث تغييراً محسوساً في ديسك قيادة الولاية ويحُدّ من ظاهرة الانفلات الأمني الذي يتزايد كل يوم وأثر في بنية وهيبة الحكم في نيالا البحير.. نيالا التي كان ينبعث عطرها ويغني لعطورها الفنانون هي اليوم تشتم منها روائح البارود والدماء والأشلاء مع صورة مصاحبة وهي تلوث الأخلاق من خلال الجرائم التي وقعت فيها ولم يألف بشاعتها مجتمع دارفور في تاريخه السياسي والاجتماعي فهي على قول مولانا محمد بشارة دوسة، جرائم دخيلة على مجتمع دارفور.. المهم في كل الذي يجري أن تحاصَر الجرائم والأسباب المؤدية لها ويسود دارفور مجتمع الفضيلة والأخلاق، فدارفور لم تعُد تحتمل أكثر من الذي لحق بها من دمار ورعب وشتات، وحكومة غير قادرة حتى على استتباب الأمن غير جديرة بالبقاء، يجب أن يُعاد للمؤسسات دورها وأن تمتلك الأجهزة الأمنية زمام المبادرة ولا بد من جهاز سياسي واعٍ وقادر على التنسيق مع أجهزته الأمنية والعسكرية، دعوا العبث وأعيدوا لمواطن نيالا ثقته في السلطة ودعوه يجعل قدراً من الاحترام للسلطة، لأن إحراق مكتب أو سيارة المسؤول يمثل اضطهادًا للنظام واستفزازًا للحاكم، ولم تعد حكومة جنوب دارفور ذات أهمية بالنسبة للإنسان الذي فقد الثقة فيها تماماً، لأن الذي حدث أمام مقر رئاسة حكومة الولاية لا يتخيل أحد حدوثه بالسهولة لكنه خيبة وخطأ فني للوالي وحكومته ولا أدري ما هي تقديراتهم وهم تأتيهم المعلومات بأن الجميع تحرك من المقابر قاصداً أمانة حكومة الولاية ولا أدري لماذا لم يشارك اللواء آدم جار النبي في مراسم تشييع اسماعيل وادي؟؟! هل كان ينتظر المشيعين حتى يأتوه بمكتبه في أمانة الحكومة ويطلعوه على نواياهم ومقاصدهم.. لأن مشاركته كانت ستخفِّف المصاب كثيراً على ذويه وربما عصمت الأحداث؟!