مجرد عبث وإهدار للطاقات المادية والبشرية ومسألة مكايدة لحكومة الجنوب التي قطعت شك الاستفتاء الأحادي في أبيي بيقين البطلان التام، فالسلطات الرسمية في جوبا كانت على قدر المسؤولية عندما أعلنت على الملأ عدم اعترافها بالجهود الحثيثة التي قام بها أبناء دينكا نقوك، وأعلنوا من خلالها تبعية منطقة أبيي المتنازع عليها إلى دولة الجنوب، وبغض النظر عن المسببات المنطقية التي حفزت سلفا كير على استهجان الخطوة واعتبارها خروجاً عن النص السياسي الذي تنتهجه حكومته، تبقى الحقيقة تؤشر بعلاتها تجاه السلطة المركزية في جوبا من الضعف وارتخاء النفوذ السيادي، بحيث قلة من التنويريين محدودي القبول الجماهيري من أبناء دينكا نقوك استطاعوا بانتهازية عالية أن يكسروا قرارات الرئيس ويمرروا - لا أقول قرارهم - لكن اتفاقهم الذي في ظاهره لشعب أبيي الرحمة، وفي باطنه من قبله العذاب، وإن كانت الرسالة المستخلصة من تمثيلية الاستفتاء ليس المعني بها مباشرة دولة الشمال التي تأتمر بأوامر ونواهي الأعراف الأخلاقية والدولية في مثل هذه القضايا الحدودية المعقدة، إلا أن الشفرة كانت تحوي رموزاً وغموضاً ومعاني تخاطب ضمنياً الرئيس سلفا كير، وتطعن صراحة في مقدراته الأمنية على حسم مثل هذه التفلتات التي دأب أبناء أبيي بين الفينة والأخرى على ممارستها تعبيراً عن رفضهم لكاريزما الرئيس وعدم اعترافهم بشرعيته كخليفة مناسب جدير بخلافة مؤسس الحركة جون قرنق، وعملاً بأحكام ذلك نخر أبناء أبيي كالسوس في جسد الحركة الشعبية وضربوا بمعاول التشكيك على جسم الحكومة، ونجحوا في ذلك أيما نجاح وجعلوا التصنيف الدولي لأفسد الحكومات في العالم، يذهب دون منازع لحكومة الرئيس سلفا كير، فالغاية تقتضي ذر الرماد في الأعين وتصوير سلفا كير بالشيطان الذي يجب أن يستعيذ العالم منه، فكانت على نطاق ذلك مسرحية الفساد وإشاعة مقولة المفسدين المحميين بسلطات الرئيس، وأعقب هذا تقديم الدعم للمتمردين في إقليم جونقلي ليشكل مقاتلو ديفيد ياو ياو ورقة الضغط الملتهبة التي تقلل من رصيد سلفا كير داخل الوجدان الجمعي للجنوبيين، وإمعاناً في توريط الرئيس حتى أخمص قدميه، كان المقربون منه من أبناء أبيي كلما اشتدت أوار الحرب الأهلية بين الجيش الشعبي والمتمردين في جونقلي وجدوا الشماعة في حكومة الشمال حتى أوغروا صدر الرئيس وجعلوه يوافق على اجتياح «هجليج» تحت ذرائع ودعاوى غير منصفة للشعبين، فكان ضرر الخطوة مضاعفاً بالعشرة على الجنوبيين على وجه الخصوص ولم يحدث على الشمال اليسير من التغيير اللهم إلا زاد من اللحُمة الوطنية وأعاد للشماليين أمجاد الجهاد والشهادة في سبيل الله... وعلى غرار هذا لا يجد المرء قلوباً أحقد على الجنوبيين من قلوب أبناء منطقة أبيي، الذين يظنون أنهم أبناء جون قرنق وأحباؤه، ويعتقدون أنهم ورثته الوحيدون الأحق بالرئاسة وقيادة الشعب الجنوبي، وهم في حقيقتهم ليسوا أقل من مراهقين سياسيين ضعيفي المقدرة القيادية في التعاطي مع التحديات التي تجابه الدولة الوليدة. ومستقبلاً إذا قدر لدولة الجنوب النصيب الوافر من حظ الاستمرارية وإمكانية أن تعُمر مثلها مثل الدول المستقلة الحرة بإرادة أبنائها، أمامها عثرة قبيلة دينكا نقوك، فهم العقبة الكؤود التي تعطل من مشروعات التنمية بالجنوب، وهم رأس الرمح الذي انغرس عميقاً وأدمى عافية التصالح الذاتي للفسيفساء الجنوبية المتناغمة الألوان، إنهم يعانون من عقدة النقص تجاه كل ما يؤدى إلى السلام ويحقن نزعة الحرب، والشاهد على هذا مهزلة الاستفتاء، فهو حصان طروادة الذي تسترت من خلفه الدسائس والمؤامرات ضد الفريق سلفا كير.. وقد يقول قائل هذا كلام لا يستقيم ومجريات الخط العام لسياسات حكومة الجنوب على خلفية أن الجنوبيين كلهم على قلب رجل واحد ضد الشمال، وجوابي على ذلك لا يتعدى منطق التذكير بأن منسوبي دينكا نقوك بحكومة الجنوب كانوا هم الذين يبذرون بذور الفتن بين الشمال والجنوب والمؤامرات ليخلقوا حالة اختلال ميزان الانفراط الأمني، وعندما فطن سلفا كير لحجم المؤامرة ووجد المعادلة الحسابية تستهدفه شخصياً، قام بتلك الإجراءات التصحيحية التي مازال صداها يتردد بقوة بين ردهات أبناء أبيي بحكومة الجنوب، وللتعجيل بالثأر من سلفا كير كان لا بد من ساتر الاستفتاء ومسرحية التبعية وما يصاحبها من ردود فعل على كل الأصعدة، خاصة ما يتعلق بصعيد المسيرية الذين لن يحسنوا أدب الصمت وهم يرون مناطقهم التأريخية تذهب أدراج الرياح، وبالتالي توفر عامل الاستثارة وانتصار مبدأ الحرب كوسيلة حاسمة لاسترجاع الحق، ما يعني انحياز السلطة في الخرطوم لجانب رعاياها المسيرية، وتدخُّل الخرطوم يعني الهزيمة الساحقة لجيش الحركة، وهزيمة جيش الحركة يستطيع أبناء أبيي بحكومة الجنوب تفسيره بالهزيمة الشخصية لسلفا كير، مما يعني عدم أهليته لقيادة الدولة وفرضية استبداله بآخر جسور يحقق الرغبة الأنانية القاضية بتنصيب واحد من أبناء أبيي رئيساً لدولة السودان الجنوبي.