ذكر السيد مدير السكة حديد فيما ذكر أن شارع القصر يبدأ بالقصر الجمهوري وينتهي عند بوابة السكة حديد، وفي هذا الوضع لكل من القصر ومحطة السكة حديد رمزية كبيرة وإن جاز لي تفسير هذه الرمزية فسأقول إن القصر الجمهوري هو من يحكم السودان وإن السكة حديد هي من يربط هذا السودان الواسع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً! فالقصر الذي يحكم يجب أن يكون ذلك العامل الأساسي في الحكم تحت ناظريه، وقد كان هذا الوضع ومنذ دخول أول قطار لمدينة الخرطوم في الأول من يناير عام 1900 ميلادية وقد تم اختيار ذلك المكان للمحطة بدقة متناهية، وقد ذكرت في المقال السابق إن دراسة أجرتها شركة ألمانية تم استدعاؤها لتغيير موقع محطة السكة حديد فكانت الشركة في غاية الأمانة حيث ذكرت أن موقع محطة الخرطوم لا يماثله في كل أوربا إلا تسع مدن أوروبية، فمحطة الخرطوم تستطيع تسيير القطارات في جميع الاتجاهات ولهذا السبب وحده تتعدد محطات السكة حديد في المدن الكبرى في أوروبا وآسيا وأمريكا، فمثلاً في موسكو توجد حوالى سبع محطات كل منها يسير القطارات في اتجاه معين. دائماً ما كنت أتخيل بعد تخرجي في جامعة ليننجراد لهندسة السكة حديد وبعد أن رأيت أن من موسكو أو ليننجراد أو كييف أو أي مدينة يمكنك السفر إلى أي جهة في أوروبا بالقطار، وكانت كل المدن والعواصم الأوروبية شرقية كانت أم غربية مرتبطة برباط حديدي ممثلاً في السكة حديد. كنت أحلم بأن يكون السودان بمحطة الخرطوم هو الرابط لكل دول الجوار يصدر لهم الغذاء وينقل لهم صادراتهم ووارداتهم، وتخرج الإشارات من بلنجة الخرطوم مكرر بلنجة إنجمينا، أسمرا، أديس أبابا، جوبا، كمبالا، داكار.. إلخ هكذا كان الحلم، ولعل من وضع القصر الجمهوري ومحطة الخرطوم في خط مستقيم أسموه شارع القصر كان يحلم ذات الحلم وكان يفكر في مستقبل القصر الذي ستحققه له الأداة السحرية المسماة بالسكة حديد، والتي ما جاءها البأس إلا من طرف الشارع الشمالي. ولست بمبالغ إن قلت إن زلزلة الحكم في القصر ما بدأت إلا بعد أن بدأت الزلزلة في نهاية شارع القصر الجنوبي حيث بدأت السكة حديد في الانحدار المدوي الذي زلزل الشارع وعانى القصر في طرف الشارع الآخر وكان مركز الزلزال هو السكة حديد ممثلة في محطة الخرطوم التي يتوسط موقعها تسع دول محيطة بالسودان وعاشرها البحر الأحمر أهم الممرات الإستراتيجية المائية في العالم!! والسودان بلد الفرص الضائعة حقاً، إن الذين تسببوا في تدمير أعظم محطة توزيع في إفريقيا وتسمى بالمصطلح العالمي «ديبو» أناس لا يتحملون المسؤولية، ومن لا يتحمل المسؤولية يمكنه اقتراف أي جريمة وهو على ثقة تامة بأن أحداً لن يسأله عنها، كيف بالذي يدمر السكة حديد ليفتح شارعاً وكيف بالذي يزيل خطوط المناورة ليبني موقفاً لحافلات الشقلة والحاج يوسف؟! لعمري إنه استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير..!! في خمسينيات القرن الماضي كانت محطة الخرطوم توجه يومياً في اتجاه بورتسودان إحدى وعشرين قاطرة، وذات العدد يتوجه في ذات اليوم من بورتسودان للخرطوم، هذا بخلاف ما يتوجه إلى الشمال والغرب والجنوب!! وإذا كانت حمولة القطار في ذلك الوقت سبعمائة وخمسين طنًا فإن هذا يعني أن حوالى ستة عشر ألف طن من الصادرات يومياً تتوجه نحو الميناء ومثلها من الواردات إلى الخرطوم، واليوم وبعد مرور ستين عاماً تجد السكة حديد نفسها عاجزة عن توجيه أكثر من قطارين، رغم أن حاجة السكان من المواد تضاعفت عشرات المرات إن لم نقل المئات، واختفت لذلك العلاقة الوثيقة بين طرفي شارع القصر بعد أن زال الطرف الجنوبي الذي كان حلقة الوصل التي ربطت كل أطراف السودان اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً وحتى الآن لم يتحسس الطرف الشمالي للشارع الأرض تحت قدميه! إنني حين أنادي بإحياء السكة حديد إنما أنادي لإحياء السودان من جديد، إحياء السودان الذي لن يكون له مكانة بين مواطنيه فحسب إنما مكانته بين الدول التي تجاوره، وكما ذكرت إن السودان يطل على غرب إفريقيا ومنطقة البحيرات والقرن الإفريقي والبحر الأحمر، دولة تملك هذا الموقع الجيوبوليتكي والإستراتيجي حري بها قيادة الإقليم اقتصادياً وبالسكة حديد لا بغيرها، بالاقتصاد، بالتواصل بين المجتمعات وبتمازج الثقافات. هذا الدور مؤهل للعبه السودان وليس غيره! أذكر أنني قبل أربع سنوات قدمت ورقة بهذا المعنى في مؤتمر في موسكو وكانت الورقة الوحيدة التي اهتمت بها أجهزة الإعلام الروسية روسية وإنجليزية وعربية وطلب مني سفير الاتحاد الإفريقي أن أعطيه صورة من الورقة لمناقشتها في الاتحاد الإفريقي، وقد أعطيته ما طلب، ولكن في السودان لم يسأل عنها أحد بالمرة!! إن وحدة السودان واقتصاد السودان وأمنه العسكري والاجتماعي مرتبط بصورة مباشرة بالسكة حديد. أرجو صادقاً أن يفكر القصر في إحياء طرفه الآخر من الشارع لترجع الحياة إلى السكة حديد فيحيا بحياتها السودان.