في حالة تقاوي القمح التركية التي أثارت جدلاً كثيفاً وملأت الأفق هذه الأيام بعد حديث المزارعين عن عدم صلاحيتها، يبقى أحد الطرفين كاذباً.. إما الوزير ومعه البنك الزراعي الذي وزع شهادة صلاحية للتقاوي على المزارعين تؤكد أن نسبة إنباتها «95%» مما يعني جودتها، وإما المزارعون الذين يؤكدون أن التقاوي التي استلموها من البنك الزراعي وقاموا بزراعتها كانت نسبة إنباتها تتراوح ما بين «20% 35%» وهذه نسبة متدنية تعني عدم صلاحية التقاوي، وبالتالي فشل موسم القمح.. والمسألة بسيطة فالمزروع من التقاوى ليس على سطح القمر إنما في مشروع الجزيرة، وبإمكان أي إنسان أن يصل لمشروع الجزيرة ويرى بأم عينيه ما يجري هناك.. وأعتقد أن مسألة التقاوي هذه المرة لا تحتاج للجان تحقيق ولا تحتاج لهيصة كبيرة من أي طرف كان، فالقضية واضحة كالشمس، تقاوي لم تنبت بالمستوى المطلوب ولا حتى بنسبة «50%» بما هو مطلوب، فالخلل باين والمسؤولية بالدرجة الأولى يتحملها الوزير والبنك الزراعي، ويجب على السلطات ألا تتعامل مع هذه القضية بتهاون وتتركها لتنسى مع الزمن.. وللتراشق والحرب الكلامية والإعلامية على صفحات الصحف والقنوات الفضائية.. هذه القضية أصبحت قضية حقيقية تمس مصير شعب يتهدده الجوع.. وهي كارثة على الزراعة بل على الموسم الشتوي وعلى الإنسان السوداني الذي ينتظر القمح كبديل بعد تدني إنتاجية الذرة في الموسم المطري، وفي ظل أزمة الخبز التي باتت تتكرر علينا باستمرار هذه الأيام، والغموض يكتنف الموقف حولها.. المزارعون بالجزيرة أجمعوا على فشل التقاوي وعلى أنها كانت مخزنة بمخازن البنك الزراعي بالجزيرة، وتم استيرادها خصيصاً للموسم السابق لكنها وصلت متأخرة فاضطر البنك لتخزينها مما أدى لتعرضها للكسر والتسوس، ما فعله البنك أنه قام بإعادة تعقيمها مرة أخرى وتوزيعها على المزارعين، وبالطبع لا يمكن للمزارعين أن يعرفوا بفسادها إلا بعد زراعتها.. فمن السهل أن تستورد أي تقاوي مضروبة وتستخرج لها شهادة صلاحية إذا غابت القيم والمسؤولية التي تقتضي أن يكون الإنسان أميناً مع نفسه وربه قبل أن يكون أميناً مع الناس.. ولكنها الفوضى المحمية بالسلطة التي ضربت كل شيء. لماذا أصبحت التقاوي.. أي تقاوي محل جدل باستمرار ونشير هنا إلى تقاوى عباد الشمس التي أخرجت الكثيرين من دائرة الاستثمار الزراعي العام الماضي فهي تقاوى أيضاً قام البنك الزراعي بتوزيعها على المزارعين، وعلى الذين يستثمرون في هذا القطاع.. وقطع البنك الزراعي بصلاحيتها لكن الواقع أن نسبة نجاح المحصول كانت متدنية لدرجة فاضحة.. ما يؤكد أن هناك علة لا جدال حولها داخل آليات وزارة الزراعة المسؤولة عن استجلاب هذه التقاوي.. وقلقنا يتزايد على مصير المزارعين الذين رهنوا حواشاتهم للبنك الزراعي مقابل التقاوي والأسمدة التي نصيب المزارع الواحد منها تجاوز أكثر من أربعة آلاف جنيه في موسم اتضحت ملامح فشله المتمثلة في فشل التقاوي.. فمن يحمي المزارع الذي فقد كل شيء.. فقد مونته وسيفقد حواشته إذا أصر البنك الزراعي على استرداد المبالغ المقابلة للتقاوي والسماد.. لا تجدي سيدي الوزير تلويحاتكم بأن ما يجري ما هو إلا تصفية حسابات مع جهات تنازعكم تعلمونها أنتم في إطار فك التسجيلات أو التعديلات الوزارية.. فالضرر الذي يقع على القطاع الزراعي في السودان أكبر وأخطر من رهن مصيره بالتعديلات الوزارية أو بحروب خفية لاقتسام المصالح في هذا القطاع.. فعلى وزير الزراعة أن ينحاز لمصلحة المزارع وأن يكون حازماً في مراعاة المواصفات المطابقة لجودة التقاوي.. وقبل كل هذا أين هيئة البحوث الزراعية، عليكم بنفض الغبار عنها. ولن ينصلح الحال إلا إذا بعودة هذه الهيئة لتنتج البذور المحسنة والتقاوب التي تلائم بيئتها بمختلف تركيبتها المحصولية لنغلق الباب عن استيراد التقاوي المحفوف بالمخاطر.