الأسفار والرحيل والتنقل من موضع لآخر على سطح البسيطة صار من سمات هذا العصر الذي توفرت فيه وسائل الأسفار براً وبحراً وجواً وتعددت وأفلح بنو الإنسان في إطار النهضة الحضارية الحديثة أن يرتقوا بهذه الوسائل إلى مستوى متقدم ومتطور قابل للتحديث والارتقاء يوماً بعد يوم. لقد عاش الإنسان الأول في الحضار ة الإنسانية القديمة يعتمد على وسائل حركة اعتمد على الحيوان بعد حركة الإنسان الذاتية القائمة على السير بالأقدام.. فكانت العيس والخيل والبغال والحمير والثيران وهذه الحيوانات على قلة سرعتها عن وسائل الحركة اليوم إلاّ أنها مثلت حلقة الوصل والاتصال والأسفار لبني البشر فترة زمنية طويلة ولا تزال تمثل حركة وصل في مناطق مترامية من عالمنا الحديث رغم مزاحمة وسائل الاتصال الحديثة لها مثل السيارة والطائرة والسفن والبواخر.. وكانت الدواب محل فخر واعتزاز عند العربي البدوي في حله وترحاله فها هو المتنبي أحمد بن الحسين إمام عباقرة شعراء العرب يقول: أعزّ مكان في الدنا سرج سابح وخيرُ جليس في الزمان كتاب فالسرج ما يوضع على ظهر البعير أو الفرس أو الحمار من أعواد تصنع من الخشب والأشجار وترصع بالجلد أو شيء من الحبال وفيه «البطان» و«الشداء» و«الضناب» والسابح هو الفرس كما قال تعالى: والسابحات سبحاً» كما استخدمت هذه الدواب بجانب الرحيل وحمل الأمتعة من مكان لآخر في رحلات الصيد والتجوال في البوادي والفلوات فهذا الملك الضليل الشاعر الجاهلي امرؤ القيس يقول عن فرسه: وقد اغتدي والطير في وكناتها ٭٭ بمنجردٍ قيد الأوابد هيكل والمنجرد هو الفرس الأصيل قليل الشعر الذي من صفته لا يعرق أثناء السير.. وقد خلد القرآن الكريم دور هذه الدواب في قوله: «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة» وكان الإنسان الأول يحج إلى بيت الله الحرام في أم القرى إما راجلاً وإما راكباً وقد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة في عمره عرفت بحجة الوداع وكان راكباً على ناقته.. ولذا ذهب كثير من العلماء إلى أفضلية الحج راكباً اقتداءً برسول البشرية الأمين محمداً صلى الله عليه وسلم. ومن حج راجلاً صح حجه وسعيه لقوله تعالى لأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام: «وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق» يعني أعلن في الناس مواسم قصد بيت الله الحرام فيستجيب لك كل من سمع النداء ويأتي حاجاً ماشياً على أقدامه أو راكباً دابته. وإن كانت وسيلة السفر بالدواب والحيوان أو بالآلة المصنوعة من الحديد والألمونيوم والخشب وسواه فهي في المقام الأول نعمة مزجاة من المولى عز وجل تستحق الشكر والحمد والثناء الجميل لله عز وجل على آلائه العظيمة وفضله المديد وبسطه الكثير.. وبهذه المناسبة دعني أيها القارئ الكريم نقف وقفة يسيرة عند مصطلح «بسيط» أو لفظة «بسيط» التي من الفعل الثلاثي بسط يبسط ومصدره بسطاً بمعنى وهب ومنح وأعطى ومد.. قال تعالى: «والله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر» وقال أيضاً: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً». غير أنه من الأخطاء اللغوية الشائعة اليوم استخدام لفظ بسيط بمعنى قليل أو يسير أو زهيد وهو خطأ يُذهب رونق اللغة العربية وسر جمالها في دلالة الالفاظ ومباني معانيها وهي آفة لحقت بلسان الخاصة دع عنك عامة الناس وسوادهم والقرآن بين أيدينا!! ومن خلال أسفاري براً وجواً وبحراً أدركت أهمية نعمة الله في إيجاد هذه الدواب قديمة وحديثة سريعة وبطيئة الحيوان منها والجماد فهي تخفف الرهق والتعب أو تزيله تماماً.. وهي تختصر لنا الأوقات والأزمان.. وتوفر الأموال والطاقات.. وتيسر لنا صلة الأقارب والأرحام واخوة الإيمان.. تقرب لنا أسباب الحصول على العلوم والمعارف والخبرات.. ولذا هي من تسخير الحكيم الخبير الذي منّ علينا بها ولذا علمنا رسولنا الكريم أن نقرأ قول الله تعالى: «الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين» إذا امتطينا صهوة دابة.. أو ركبنا بحراً أو طرنا في الجو والهواء. للأسفار بشقيها الحيواني والآلي متعة وراحة وانشراح فأنت تمر بالوديان الجارية والحدائق الغناء والأشجار الوارفة الضاحكة.. والتلال الصامدة والجبال البديعة.. والأطلال والآثار والعمران البشري وعيون الحضارة المدنية التي جادت بها قرائح بني الإنسان وزخرف الحياة في القرى والمدن والفرقان والأحياء.. وهناك تدرك معنى قول الإمام محمد بن ادريس الشافعي الذي ولد في غزة ونشأ يتيم الأب فنقلته أمه من غزة الى مكة في أرض الحجاز فكأن رحلته أيام الطفولة من الشام الى الحجاز هي التي جعلته ينشدنا أبياته الرائعة حين شبّ عن الطوق وجاء لسانه بدرر الشعر وهو يدرس العربية في بادية هذيل.. يقول الإمام الشافعي الفقيه الأصولي الشاعر إمام العربية واللغة: سافر، ففي الأسفار خمس فوائد علم وآداب واكتساب معيشة وتفريج همٍ وصحبة ماجد سافر تجد عوضاً عمن تفارقهم وانصب فإن لذيذ العيش في النصب والأُسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم تصب ويبقى من وحي اسفاري شيء من حتى وقد ضاق بنا المقام.. فلله الحمد من قبل ومن بعد على نعمة السفر ووسائله الكثيرة.