لعله الحيوان الوحيد الذي ظل موضوعاً للأدب والأدباء «ولسوء الأدب أحياناً» على مر تاريخ الإنسان وحضاراته وثقافاته.. هذا، ولم يعبأ الحمار بمن رفعوه إلى مقام الفلاسفة «مثل توفيق الحكيم مثلاً» كما لم يستفزه من جعلوا مجرَّد ذكر اسمه سبة ومسخرة، كما تفعل العامة وفي القرآن ذُكِرَ الحمارُ في مقامات، أذكر منها مقامين فيهما تشريف، حين ذُكر مرة ضمن ما أنعم الله به على الإنسان من دواب، مركباً وزينة. وأخرى منسوباً إلى نبي من أنبياء الله «عزير» الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها.. الآية، فأماته الله أي الحمار مع صاحبه مائة عام ثم بعثه بعد سيده، ليشهد عزير كيف ينشز الله عظام حماره ثم يكسوها لحماً، ليستوي الحمار بعدها واقفاً، فيمتطيه النبي ويواصل مشواره. ثم ذكر في القرآن فيما أعي مرة واحدة في مقام التنقيص «كالحمار يحمل أسفاراً» غير أن هذه الآية لمن يتأمل، لا تنقص من قدر الحمار، الذي ليس مما يشرفه أن يفقه ما في أسفار البشر، ولا يحط من قدره أن يجهل ما تحوي أسفارهم، إذ يقتصر واجبه على حمل الأسفار، بل تكشف الآية سفه الإنسان الذي يقتصر على أداء جُزءٍ صغير من وظيفة الحمار، بينما يتخلَّى عن وظائفه هو، التي يسَّرَهُ اللهُ لها !! «ويظُنُّ آخرُون بينهُم قدامَى مفسري القرءان الكريم، أن كلمة «الحمير» في قوله تعالَى من سورة لقمان: «واغضُض من صوتِكَ إن أنكَرَ الأصواتِ لصوتُ الحمِير» يظنون أنَّ «الحمير» هُنا هي جمعُ «حِمار» وأن الله تعَالَى ينتقصُ مخلُوقهُ الحِمار فيُنكِرُ صوتَهُ، تعالى اللهُ عن أن يخلُقَ أُمَّةً من خَلقِهِ ثُم ينتقِصُها أو يذُمَّها، إلا أن تكُونَ مكلَّفةً كالإنسان والجن فتكسبَ إثماً يجعلها جديرةً بالذم، وليس في سائرِ أجناس الحيوان ما يستحقُّ الذَّمَّ لإثمٍ اكتسبه، وسياقُ الآية يُفرِدُ «صوت» مما يقطعُ بأن «الحمِير» مُفردٌ بدورها، ومن شاء أن يبحث في معاجم العربية يجدُ أن «الحمير» على وزن «فعيل» من الناس، الغاضبُ فاقد السيطرة على نفسه وجوارحه وصوته، ونعلمُ كم يتغيَّرُ صوتُ المرءِ الغاضِبِ فيُنكَرُ المُنكَرُ من كُلِّ شيءٍ هُو غيرُ المعروفِ أو المألوف فيستقيمُ هكذا سياقُ الآية الكريمة ودلالتها وصلة صدرها بعجزها، وتنتفي إشكالاتها اللُّغوية والدلاليَّة».. وفي مصر أواسط القرن الماضي، نشأت جمعية من أهل الأدب جعلت الحمار شعاراً لها، وكشفت من مطوي مناقبه ما يجعله جديراً بالاقتداء، في كثير من الخصال التي يفتقر إليها كثير من الناس، مثل الصبر والرضا والإخلاص في أداء الواجب، والتفاني.. فكان أصحاب تلك الجمعية لا يمنحون لقب «حمار» إلا لمن يتفانى في استلهام خصال الحمار تلك، ويبلغ إخلاصه وتفانيه «ونكران الذات لديه» مبلغاً يقارب ما لدى الحمار، وكانت أنفاس الكثيرين منهم تنقطع قبل أن ينالوا ذلك اللقب الرفيع.. وربما احتفل بعضهم وأقام الأفراح، لمجرد حصوله على لقب «جحش» وقليل من بلغ ذلك المقام. ولم تكن تلك الجمعية وحدها هي من راح يعمل على «رد اعتبار» الحمار وإكرامه بل سبقها وتلاها، كثير من الأدباء والمفكرين و«الأخلاقيين» وعلماء الحيوان منذ الجاحظ الذين اجتهدوا في إبطال رأي العوام الشائع، عن الحمار، ذلك الرأي الذي تطرَّفَ كثيراً في إضافة «الغباء» إلى الحمار، بل وجعله دون خلق الله، المثل الأعلى للغباء والبلادة، حتى صار الأب إذا أغضبه غباء ابنه أو الأستاذ إذا غمّه تبلُّد تلميذه وصفه بأنه «حمار».. ولو علم أولئك ما علمه توفيق الحكيم لاعتذروا كثيراً للحمار.. ولو عرفوا ما يعرفه اليوم علماء الحيوان لاندهشوا من غبائهم الخاص، إذ ينسبون إلى الغباء والبلادة أحد أذكى الحيوانات وأوعاها ذاكرة وأفضلها خُلُقاً. كنت أنوي أن أجعل هذه المقدمة مدخلاً لحديث عن «حمار سوداني خالص» أبلى بلاء عظيماً، واستحق أن يُذكر إلى جانب قمم حمارية «مثل حمار النبي عزير وحمار الحكيم» ذلكم هو حمار العم عيد.. ولكن يبدو أن المقدمة تطاولت، ولم يعد في مساحة العمود ما يكفي لأحدثكم عن حمار العم «عيد» المسحراتي.. ليكن الغد بمشيئة الله موعدنا إذاً.