ليست المعضلة أن يتشاتم ويتلاسن حزبا الأمة القومي بقيادة الصادق المهدي والمؤتمر الشعبي بقيادة الدكتور الترابي، فذاك حال السياسة وتنافر القيادات وتنابذ الأحزاب، لكن المعضلة تكمن في أنهما يتعاركان على هامش الشارع السياسي وعلى رصيفه البارد، بينما سفينة خصمهما المؤتمر الوطني تمضي لا تبالي بالرياح والنباح من حولها.. إذا كانت الأحزاب السياسية عندنا لا تتفق حتى وهي في مقعد المعارضة، فكيف تتوافق إذا لاح بريق السلطة وغشيها لمعان الكراسي بعد أن كانت تعيش في ديجور المعارضة وبيدرها القاحل... لم نفهم حتى اللحظة كما يقول أهلنا في دارفور الذي «قُسم ولم يكفي» للحزبين المعارضين، حتى يدق بينهما عطر منشم، كما بان في الأيام الفائتة، ولن تكون هذه هي المرة الأخيرة وبالطبع ليست الأولى، التي يتراشقان فيها بالألفاظ الغليظة.. فحزب الأمة يتهم المؤتمر الشعبي وقياداته بهندسة وتدبير ما يجري في دارفور من تمرد، ويحمِّله مسؤولية وأد الديمقراطية الثالثة والإتيان بانقلاب الإنقاذ والنظام الشمولي.. بينما ذهب المؤتمر الشعبي إلى اتهام حزب الأمة بموالاة المؤتمر الوطني وقبوله بالارتداف خلفه وسيل لعابه للسلطة وجريه خلفها حتى صار كما قالوا «ترلة» للحزب الحاكم وتابعًا منزوع الكرامة خلفه.. وكال كلا الحزبين لبعضهما اتهامات تخوينية بتلقّي أموال من الخارج وتنفيذ مرادات أجنبية في البلاد، والتهديد بفتح ملفات قديمة ونبش التاريخ والعطس وسط غباره.. إذا كان السبب في كل هذا، هو ما يُشاع عن اقتراب حزب الأمة من مفارقة قن دجاج المعارضة، ليكون في صف الحكومة مشاركاً أصيلاً فيها رغم نفي السيد الصادق لذلك، فهو سبب واهٍ... ولا يمكن تصديقه بسهولة لأننا نربأ بحزب الأمة القومي أن يكون سهل الطوية، سريع الذوبان، يستدير مائة وثمانين درجة، ليكون في مركب الحكومة يتلمظ للتشكيلة الوزارية المنتظرة، يقف مع طوارق باب المؤتمر الوطني آملاً في السماح له بالدخول وهو يلعن قفاه وقفا المعارضة.. وهذا إن صحَّ وبانت طلائعُه موشحة الرايات، فلا يمكنه أن يثير غيرة المؤتمر الشعبي، ويقضّ مضجعه، فيكيد لحزب الأمة ويترصده ويتهدده بقرب خروجه من جوقة المعارضة.. والمؤتمر الشعبي يظن أنه حتى وإن علت كل أصواته الضاجّة والرافضة والمجلجلة أولى بدخول الحكومة من غيره، ووحده من يقف عند باب الخروج من المعارضة ودخول باحة الوطني يعطي الإذن لمن يريد ويمنعه من يقدم.. وبالرغم من أن المؤتمر الشعبي يعلم علم اليقين، أن حزب الأمة القومي في شأن المشاركة في الحكومة يقدِّم رجلاً ويؤخر أخرى... ويعلم كذلك أن السيد الصادق يعشق هذا الموقف الوسطي الرمادي، يريد المؤتمر الشعبي أن يدخل في خصيصة حزب الأمة وزوايا فؤاده القلق، ويقف أمامه حتى لا تحدِّثه نفسُه بالمشاركة! حزب السيد الصادق الذي يغيب عن المؤتمر الشعبي علاقته بما يجري في دارفور، ليس غافلاً عن دوره هو في تأجيج صراعات هذه المنطقة، لكنه يتغافل عنها، فأغلب قادة وكوادر الحركات المتمردة عدا حركة العدل والمساواة كانوا من منسوبي الحزب، فهو والمؤتمر الشعبي يحملان معاً وزر ما جرى ويجري في دارفور، مثلما يتحملان معاً ما يفعله الآن قيادات تنتمي إليهما في الجبهة الثورية، فحركة العدل والمساواة التي خرجت من عباءة المؤتمر الشعبي وقيادات حزب الأمة مثل نصر الدين الهادي المهدي مساعد الرئيس في حزب الأمة وابن عم السيد الصادق، هم من أركان هذه الجبهة وأعمدتها.. في تقدير الكثيرين من مراقبي الساحة السياسية وسجالاتها، أن الحزبَين المتشاتمَين المتنابذَين، بينهما قاسم مشترك لا انفصام له، فكلاهما لا يريدان الابتعاد من بعض، فإما في المعارضة معاً منغمسان في أوحالها وأوهامها، أو في أحضان المؤتمر الوطني معاً يستدفئان عنده من هجير الجلوس الطويل في وسط النقعة الملساء في انتظار ما لا يأتي! إن كان هناك تفسير آخر، لداحس والغبراء الكلامية، بين الحزبين المعارضين، نخشى ألّا يتسق مع حالة الذهول والذبول، لأوداجهما المنتفخة، يعتصران عندها الزمن وقد آذنت الشمس بالغروب.. وخشي الجميع الضياع!!