بمقتل الرئيس السابق معمر القذافي وتحرير ليبيا من آخر معاقل وفلول نظامه القمعي البغيض انطوت صفحة سوداء ودامية عايشتها الجماهير الليبية أثناء أربعين عاماً اتسمت بحكم الفرد المطلق المتمسح زورًا بحاكمية الشعب عبر مؤتمرات مصنوعة ومعدة مسبقاً، مؤتمرات يحركها الطاغية وأعوانه، وطوال هذه السنوات الحالكة كان زبانيته يقتادون كل من يهمس أويتململ ضيقاً من جبروت الطاغية إلى غياهب السجون أو التصفية بليل أو التعذيب السادي من قبل المهووسين والمرضى بشبق العنف والقسوة والدماء، وأصبح الشعب الليبي همساته يحصيها الزبانية حتى ظنوا أن ركوعهم لله ربما نازعهم فيه يوماً الطاغية، لكن القذافي بهوسه وتجبِّره لم يكتف بالزعامة المطلقة فتقمّص دور المفكِّر الذي يؤلف نظرية للحكم فيسوس بها شعبه المقهور، بيد أنه رأى أن نطاق زعامته محدود فحاول أن يتزعم العالم العربي بوهم الوحدة والقومية العربية وعندما فشل اتجه إلى إفريقيا وأغدق أموال الشعب الليبي تجاه بعض الحكام الطغاة في القارة ونصّب نفسه ملك الملوك في القارة وأصرّ حتى أن يؤم الأفارقة في الصلاة وأن تكون خطبته هي الأطول في مؤتمرات القمة وأكثرها إثارة وبثاً للشقاق بين الدول، وعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولاياتالمتحدة التي أفضت تداعياتها ركوب ما يسمى بالشرعية الدولية كآلية لتأديب الدول المارقة على سلطان الولاياتالمتحدة وما أعقبها من احتلال العراق وسقوط رئيسه صدام حسين واحتلال أفغانستان وانحدار حكومة طالبان خشي القذافي أن يلاقي نفس المصير فأعلن عن تدمير صناعته النووية واختفى الخطاب السياسي الراديكالي الملتهب الذي يسبُّ فيه الولاياتالمتحدة والغرب ويتحداهم على طريقة رجل التريسو واستبدله بخطاب مهادن حتى أعلن أنه «لايعتبر أن غرب أوربا ستستعمرنا وقال«إننا في ليبيا لا نخشى تأثير ثقافتهم علينا وقال إن ليبيا ستشكل جزءًا من البحر المتوسط وبإمكانها أن تلعب دورًا حاسماً في فضائه وستسفيد من مشاركتها مع الجانب القوي المتقدم في إشارة إلى الاتحاد الأوربي، كما وصف القذافي الفتوحات الإسلامية بأنها استعمار لأوربا، لكن الغريب أن انكسار القذافي للغرب قابله الإعلام الأوربي بالسخرية وعلّق عن تخلي القذافي عن الوحدة الإفريقية والانفتاح نحو إفريقيا وقال ساخرًا«إن خطوة القذافي تعني أن ينصب خيمته على ضفاف الأنهر والبحيرات الأوربية متخلياً عن أزيائه الإفريقية ومروجاً لفكرة ساركوزي عن المشروع المتوسطي» كما تنبأت الإذاعة الهولندية أن التحول الجديد للقذافي ستكون محطته النهائية إسرائيل. وبالرغم من أن تكهنات الهولنديين حول رسو سفينة القذافي في إسرائيل لم تتحقق صراحة لكن القذافي بدأ في أخذ خطوة عبر ما اعتبره حلاً للصراع العربي الإسرائيلي أسماه إسراطين وقال إن مشروعه يسمح بالتعايش السلمي بين الإسرائيليين والفلسطينيين ولا شك أن ثورة ليبيا الشابة ومآلاتها المتمثلة في إسقاط أحد الأنظمة القمعية في المنطقة وقتل زعيمها على يد الثوار ربما تستلهم منه كل الشعوب الأخرى المقهورة الراسخة في قيد الاستبداد فتنفجر في وجه جلاديها وتكسر سلاسل القهر وعندها فلن يستطيع الطغاة أن يحتموا بسطوة زبانيتهم وستكون نهايتهم في «زنقة» أو حفرة يخرجون منها كما الجرذ المذعور.