حسب بعض المصادر التاريخية فقد نشأت ممالك إسلامية كثيرة في منطقة العلاقي، وكانت تعتمد على المعدن، الأمر الذي يدل على أن الذهب متوفر في فيافي شرق السودان وشماله منذ القدم. وفي شمال كردفان يقال إن حضارة عظيمة يطلق عليها «ناس أبو قنعان» قد نشأت في أطراف الصحراء الكبرى معتمدة على المعدن الأصفر أيضاً، وانشغلوا به حتى أنساهم ممارسة الزراعة والرعي وأصابهم الجوع والقحط، فضرب بهم المثل الذي يقول «لو لقينا الكيل بالكيل، ما رحنا بالميل» بمعنى أنهم قد وصل بهم الجوع حداً جعلهم على استعداد لمبادلة كيلة الذرة بكيلة الذهب! ونعلم أن محمد علي باشا قد فكر في غزو السودان في عام 1821م بحثاً عن الرجال والذهب من جبال بني شنقول! وكل هذه الإشارات تدل على أن الذهب موجود في مناطق متفرقة من الأراضي السودانية من الشرق في جبيت وجبال البحر الأحمر، وحتى جبل عامر وحفرة النحاس في الغرب. وقد ظلت بعض الجماعات تمارس التعدين العشوائي منذ زمن بعيد، على ضفاف الأنهار والأودية أو من باطن الأرض، لكن في السنوات الأخيرة، ترك آلاف المواطنين وظائفهم وأعمالهم، كما ترك طلاب الجامعات والمدارس مقاعد الدراسة، ولجأوا للعمل في التعدين العشوائي، تحت وطأة الظروف المعيشية الطاحنة، وعدم توفر وظائف للخريجين والعمال، بحثاً عن الثراء العاجل في سفوح الجبال والصحارى، في ظروف بالغة القسوة والشدة، معرضين أنفسهم لمخاطر متنوعة، منها الموت عطشاً أو بسبب انهيار الآبار أو جراء الحوادث المرورية المؤسفة. وعلى الرغم من إجماع كثير من المختصين على أن هذا النشاط قد أحدث حراكاً اقتصادياً واجتماعياً واسعاً على المستويين الرسمي والأهلي، إلا أننا نعتقد أن ما ينطوي عليه من مخاطر يفوق كثيراً ما يترتب عليه من نتائج! حيث أشار بعض الخبراء إلى أن «التعدين الأهلي قد أفرز جملة من السلبيات التي يتوجب التصدي للحد منها أو تخفيف حدتها، ويأتي على رأسها تأثير التعدين على صحة البيئة، جراء استخدام مادة الزئبق، علاوة على مساهمة الحفر الجائر في تكسير المعالم الجيولوجية، بالإضافة الى مخاطر صحية جراء حفر آبار لأكثر من «20» متراً دون دراسات تحدد مدى قابلية التربة للحفر، مما ينتج عنه الانهيارات التي تقود الى الوفيات». وقد أشار تقرير محلي نشر أخيراً إلى انتشار عدوى الدرن بين «الدهّابة». ومن جانبها، ظلت الجهات الرسمية تعوِّل على عائدات التعدين الأهلي الذي صار هو الداء والدواء في وقت واحد، من أجل المساعدة في التخفيف من وطأة الوضع المعيشي والبطالة. ولكن حسب إفادات العاملين في هذا النشاط غير المضمون، فإن نسبة لا تتعدى 5% هي التي تجد ما يعرف عندهم ب «المفاجأة»، وتحدث كل هذا الوهم والضجة التي دفعت كثيرًا من الشباب والمنتجين إلى ترك العمل في الزراعة والرعي، ونتيجة لذلك تدهور الإنتاج بل كاد ينعدم تماماً، مما أدى إلى ندرة في بعض السلع كاللحوم والخضر وبالتالي ارتفعت الأسعار. كما أن معدل الوفيات من التعدين التقليدي بشكل مباشر أو غير مباشر مرتفع جداً، فقد بلغت حصيلة الوفيات في شمال كردفان لوحدها ما يزيد عن سبعين شخصاً خلال الأشهر الأخيرة. وفي منطقة راهب في الصحراء الكبرى، هنالك تهديد أمني على العاملين في التعدين الأهلي من قبل الجماعات المتمردة في شرق شمال دارفور بدليل حادثتين معروفتين في الآونة الأخيرة. وما أحداث جبل عامر بشمال دارفور ببعيدة عن الأذهان، إذ مازالت النزاعات القبلية حول ملكية مناطق التعدين تحصد أرواح الأبرياء! ولا بد هنا من الإشارة إلى محاولة الجبهة الثورية زرع الفتنة بين «الدهابة» وأهل أبو حمد أخيراً! كل هذه العوامل تجعل من غير المقبول أن تصم الحكومة آذانها عن معالجة هذا الوضع البائس، بحجة أن المعدن الأصفر قد يساعد في تخفيف أعباء الضائقة المعيشية الطاحنة التي تجتاح البلاد الآن. ومن المؤسف حقاً أن عائدات التعدين الأهلي لا تستغل في زيادة الإنتاج الزراعي ولا الحيواني. ومن ناحية أخرى فإن المواد المستخدمة بطريقة غير علمية لاستخلاص الذهب، مثل الذئبق وغيره من المواد الكيمايئة، تمثل أضراراً بالغة على صحة البشر، وقد تسبب أنواعاً عديدة من الأمراض كالسرطان وأمراض الرئة، والجهاز التنفسي والحساسية المزمنة، خاصة إذا علمنا عدم وجود أية خدمات أو رعاية طبية في مناطق التعدين الأهلي. ويجب ألا ننسى أن تكرار خيبة الأمل والفشل في الحصول على الكنز، يورث النفس شيئاً من السأم قد يتحول مع مرور الزمن إلى حالة نفسية ستكون لها انعكاسات سلوكية مضرة ليس بالفرد فحسب، بل قد يصل تأثيرها إلى الأسر والمجتمع بأكمله، خاصة مع ملاحظة أن معظم المنقبين عن الذهب هم من الشباب أو متوسطي العمر الذين تنقصهم الخبرة والصبر على تحمل تقلبات الدهر وصروفه. عموماً إن كان التعدين الأهلي قد نقل «الدهابة» من ركوب الحمير إلى ركوب «البكاسي» على حد قول كمال عبد اللطيف، وزير المعادن، فبحسب استطلاع للرأي أجرته مجموعة أبناء دار حامد في الفيسبوك: فإن للتعدين الأهلي جوانب إيجابية ولكنه في نفس الوقت ينطوي على سلبيات كثيرة اجتماعياً واقتصادياً وربما أخلاقياً أيضاً، إذ خلت القرى من أهلها وتوقف التعليم في كثير من المدارس التي هجرها المدرسون والطلاب على حد سواء. وصحيح أن بعض الناس قد استفاد، لكنَّ الكثيرين مازالوا يلهثون وراء السراب ويحصدون الوهم، خاصة فئة الشباب! ولذلك نرجو تدخل الجهات الرسمية لتنظِّم هذا النشاط حتى يكون في أوقات محددة تفادياً لتعطيل الإنتاج الزراعي والحيواني والفاقد التربوي، وحتى لا يصيبنا ما أصاب «ناس أبو قنعان» ويتحول التعدين الأهلي إلى نقمة وليس نعمة.