قُتِل معمر القذافي، وقبِض عليه كما كان يتوعّد بالقبض على ثوار ليبيا وقتلهم كالجرذان، فصار هو الذي ينطبق عليه الوصف، قبضوه في مجرى مائي بمدينة سرت، ذليلاً .. متوسلاً.. ضعيفاً.. مُهاناً... وحده، بلا حراس ولا حاشية ولا بريق سلطة وبلا عنجهية ولا غطرسة ولا إدعاء زائف كجنون العظمة وعشق الوهم ومداراته التي عاش فيها وبها عُرف. كل هذا الحدث المروع والنهاية التي لم يتصورها أحد لمن يسمي نفسه عميد حكام العالم وملك ملوك إفريقيا والزعيم الأممي والقائد الأوحد... هذه الخاتمة لو تخيلتها هوليوود وصورتها في فيلم من أفلام الخيال الحربي أو العلمي أو أفلام الحركة والعنف، لما جاءت على ما جرى للقذافي في مصرعه ونهايته الحادة التي تشبه منعرجات حياته. عاش الرجل منذ أن كان عمره 27 سنة حتى بلغ السبعين في سُّدة الحكم المطلق في ليبيا، لا يعرف غير زبانية السلطة والحراس والبطانة والحاشية والجاه الأسطوري الذي انغمس فيه، يطير بجناحين من الوهم وجنون العظمة والإسراف في التحليق في دنيا لا يملكها وصدّق أنه يملك كل شيء فيها حتى أرواح الناس وأقدارهم وأرزاقهم... لا يعرف غير مساقط الأضواء وشهوة الحكم والقتل والتلذذ بالدماء والطغيان. تختلف الروايات حول أصوله لكن الراجح منها والمسنودة بأدلة لا يرتقي إليها الشك، أنه من أصول يهودية وكُتِب الكثير من هذا القول ليس من باب المكايدة السياسية له، لكنها الحقيقة التي يعرفها كل الليبيين الذين يساءلون عن أخواله وبطون وأفخاذ قبيلته، فالمجتمع الليبي مجتمع عشائري قبلي، يعرفون بعضهم بعضاً، ويعرفون في باديتهم أن لكل شخص منهم نسبه الممتد والمعروف وشجرة العائلة المحفوظة في الصدور كابراً عن كابر... لكن القذافي الذي تربى في كنف محمد أبو منيار القذافي وهو رجل بسيط من قبيلة القذاذفة في نجع قريب من سرت المدينة أتى وولد بالقرب منها ومات بالقرب منها أيضاً، قهر الليبيين وأجبرهم على تجاهل نقاط مهمة في تاريخهم، وصفّى وقتل كل من له صلة بالروايات التي كانت تتحدث عن أصوله اليهودية، وقد كان اليهود يعيشون في ليبيا حتى عام 1967م حيث غادروها مثل غيرهم في البلاد العربية عقب النكسة في 1967م، وبعضهم اعتنق الإسلام وعاش في ليبيا. جيء بالقذافي للسلطة بواسطة المخابرات المركزية الأمريكية التي تسلمته من MI6 البريطانية، وأحاط القذافي نفسه بهالة من الضجيج الثوري والدعاية السياسية الصاخبة بغية لعب الدور المرسوم له بدقة في تفتيت الوحدة العربية وتنفير الناس منها وصناعة الفتن، والتحكم في الثروة الليبية، وقد كانت إسرائيل تخشى بعد حرب 1967م أن تكون الثروة الليبية وعائداتها من النفط في صالح عبد الناصر والمواجهة العربية الإسرائيلية كما كان موقع ليبيا يؤهلها أن تلعب دوراً كبيراً بمالها وثرواتها يكون أكثر تأثيراً من أي دولة عربية أخرى في الحرب ضد الدولة العبرية. وأتوا بالقذافي ليبدد هذه الثروة ويغيِّر اتجاه الشعب الليبي والدولة إلى مسار آخر، واستطاع القذافي أن يلعب هذا الدور، فصار يوزِّع المال الليبي في كل مكان في العالم بحجة دعم حركات التحرر والتنظيمات الثورية المناهضة للإمبريالية، وقد تكشّف فيما بعد أن كل دعم القذافي وصلاته بهذه الحركات كان بمثابة اختراق لها، ويقوم بعد تمتين الصلة بتمرير المعلومات للمخابرات الغربية الأوربية والأمريكية كما حدث مع الجيش الجمهوري الإيرلندي وإيران وحركة الأفغان العرب والحركات في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا والاتحاد السوفيتي نفسه. هذه الشخصية المعقّدة المركبة التي تعاني الرهاب والفصام كما قالت تقارير أمريكية من قبل، لعب أسوأ الأدوار ضد السودان منذ مجيئه للسلطة، ولا توجد مصيبة مرت ببلادنا خلال الأربعين سنة الماضية إلا وكان القذافي وراءها.