أعدَّ القذافي معركته الفاصلة مع الثوار في العاصمة طرابلس، لكنه تفاجأ بهم يدخلونها عُنوة في 21 أغسطس، وفشل قائده العسكري لتأمين العاصمة «اللواء البراني إشكال»، في حمايتها، وسط مزاعم بخيانته للقذافي الذي قتل أخاه حسن مفتاح إشكال قبل خمسة وعشرين عاماً، ودكّ زحف الثوار باب العزيزية، واضطر القذافي للفرار بعد أن اختلطت عليه الأوراق وانهار نظام حكمه كما الجليد المذاب. وخانت القذافي عبقرياته الفذة في التآمر والتخطيط لكل فعل إجرامي، وأوعزه التفكير السليم من أن يتحصن بمناطق حصينة كثيرة في الجنوب الليبي، كما كان يعتقد الآخرون وفي مقدمتهم الثوار أنفسهم الذين طالما تحدثوا عن وجود القذافي في مناطق جنوب ليبيا أو عن محاولاته الفرار للنيجر أو غيرها، على مظنة إعادة الكرة مرة أخرى في حال تنظيم صفوفه وكتائبه ومرتزقته. لكن الرجل اختار مدينة سرت، وهي معقل قبيلة القذاذفة التي يحمل اسمها، وهي مدينة ساحلية تبعد حوالى أربعمائة كيلومتر شرقي العاصمة طرابلس ومائتي كيلومتر من مدينة مصراتة إحدى قلاع الثورة الليبية الصامدة، وحوالى ستمائة كيلومتر إلى الغرب من بنغازي مدينة الشرارة الأولى للثوار ضد حكم القذافي. وسرت مدينة ساحلية غير حصينة تقع في سهل رملي منبسط لا تحيط بها أي جبال أو تلال تحصنها غير التلال الصحراوية بأشجارها الشوكية القصيرة والبحر من شمالها، ولا تمثل منطقة كثافة سكانية هي وما حولها، فالقذاذفة الموجودون في هذه المنطقة التي تتبع لهم محاطون بمناطق القبائل الأخرى من الجنوب والجنوب الغربي والشرق، ولا يوجد عمق قريب غير مدينة سبها التي تمثل إحدى حواضر القذاذفة، فاختيار القذافي لمدينة سرت كان من التقديرات الخطيرة التي كلفته حياته وحياة من معه من قيادات وابنه المعتصم. وصدق منصور ضو القحصي، قائد كتائبه الأمنية والحرس الخاص، وهو من بطن القحوص القذاذفة الذي قال بعد قبض الثوار عليه لحظة قتل القذافي إن الرجل لم يكن يفهم في إدارة المعارك العسكرية، والقذافي بحكم تكوينه العسكري كان ضابط إشارة في الجيش الليبي لم يعمل في الخدمة العسكرية سوى سنتين عامي 1966،1967م، ابتُعِث بعدها لكورس عسكري في مجال الاتصالات اللاسلكية في بريطانيا لمدة عام ونصف، وعاد بعدها لينفذ مع زملائه الانقلاب العسكري ضد الملك السنوسي في 1/9/1969م ولم تختبر قدرات القذافي العسكرية على الإطلاق، بيد أن تقديراته السياسية خلال فترات حكمه كانت مليئة بالتشويش والجنون والتخطيط العشوائي والعقد النفسية ، وكان يعتمد على القهر والمؤامرات والاغتيالات والدسائس وسيلة للبقاء في السلطة، بجانب الإحساس المخبول بالعظمة الزائفة. اختياره للاختباء في مدينة سرت، ربما يكون دافعه أنه سيكون في مأمن بوجود قبيلة القذاذفة التي ستحميه، وأنى لقبيلة واحدة أن تقف ضد إرادة الشعب كله بمختلف إنتماءاته في ليبيا، وقد سقطت نظرية التحالفات القبلية التي حكم بها ليبيا أربعين عاماً، وفي كل الأحوال لم يكن القذافي ليتقبل نصيحة أحد، عزز هذا الخبال باعتماده على ابنه المتعصم كقائد عسكري لمعركته رغم وجود ضابط كبير صاحب خبرة ووزير دفاعه الفريق أبوبكر يونس جابر الذي غلب عليه وفاؤه للقذافي فقتل معه. وطمس الله على بصيرته أن يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب لاختيار المكان المناسب ليلجأ إليه، ولحظات حياته الأخيرة والطريقة التي انتهت بها حياته، تعكس شخصية الرجل المتقلبة المرتبكة وطريقته التي حكم بها بلده لأربعة عقود من الزمان.