قلت في الأسبوع الأول من اندلاع الأحداث الدامية بدولة جنوب السُّودان إن الذي يجري هناك ليس محاولة انقلابية منيت بالفشل في السيطرة على الحكم في (جوبا) وإنما هي بداية لحرب قبلية سوف تقضي على الأخضر واليابس في تلك الدولة الوليدة، ثم توالت الأحداث بتداعياتها الخطيرة لتؤكد أن ما ذهبنا إليه قد مضى بالمسار العقلاني للنظر في تلك المشاهد فقد انقسم الجيش الشعبي إلى موالين للرئيس/ سلفا كير ميار ديت أو مناصرين لنائبه السابق الدكتور/ رياك مشار ثم رويداً رويداً ظهرت القبلية على السطح حين تم فصل الجنود الذين ينحدرون من قبيلة (النوير) عن زملائهم المنتسبين لقبيلة (الدينكا) وقد جرى كل هذا الأمر من باب الاحتياط لكيلا يحدث صدام بين القبيلتين، ولكن وتيرة الأحداث جرت بسرعة لم تمكن قادة الجيش الشعبي من مجاراة تداعياتها اللاهثة نحو المزيد من الاقتتال بين القبيلتين، وهكذا أضحى معظم (النوير) بجانب ابنهم (رياك مشار) وانضم (الدينكا) للقوات الموالية للرئيس/ سلفا كير. إذن نحن نشاهد ونتابع حربًا أهلية ولكن من غير اكتراث للنتيجة التي سوف تفرزها تلك الحرب، وحتى التحرك الرسمي الذي جرى في إطار مبادرة دول (الإيقاد) والذي مثل السودان فيه بوفد برئاسة النائب الأول لرئيس الجمهورية ووزير الخارجية، حتى هذا التحرك الرسمي جاء متأخراً، وهنا قد يقول بعضكم إن مبادرة (الإيقاد) نفسها قد جاءت متأخرة بعد أن وقع الفأس على الرأس وبعد أن أيقنت معظم دول العالم الكبرى أن الوضع في دولة جنوب السودان قد وصل لمرحلة ميئوس منها، لذلك سارعت كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا والصين إلى إجلاء رعاياها، وها هو السودان يجري الآن الترتيبات اللازمة لإجلاء رعاياه وضمان عودتهم سالمين لأرض الوطن، فقد دخلت دولة جنوب السودان في نفق مظلم بسبب هذه الحرب والتي تقول معظم الدوائر الاستخباراتية إنها ستطول ولن تهدأ نيرانها أبداً لأن الحرب التي تستند إلى القبلية لا تنعم بنهاية منطقية، فالثارات والانتقام ومحاولة إبادة الطرف الآخر ومسحه من الخارطة الكونية هي العوامل التي تغذي مثل هذه الحرب، وكلنا يعلم أن بدولة جنوب السودان العديد من القبائل المتناحرة منذ أن كانت هذه الدولة جزءاً من دولة السودان الكبرى، وبعض هذه القبائل ظل ينتظر على أحر من الجمر انفلات الأمن وغياب دولة القانون لتصفية حسابات قديمة مع قبيلة أخرى، ويزيد من قتامة هذا المشهد أن لبعض دول (الإيقاد) مصالح في انفلات الأمن بجنوب السُّودان، وبعض هذه المصالح هي امتداد لأطماع دولة الكيان الصَّهيوني في (المياه) باعتبار أن الحرب الكونية القادمة هي حرب المياه بلا منازع، لم تعد الأطماع في (النفط) هي العامل الأبرز في معظم الحروب التي يشهدها العالم الآن، كما أن دولة إسرائيل تنظر لهذا الصراع من أجل إرباك الخرطوم والقاهرة معاً في إطار الحرب المنتظرة في المياه، وليس من الحكمة استبعاد المخاطر المحتملة من أطماع إسرائيل في المياه، فكل الدلائل تشير إلى تورط هذه الدولة في الصراع الدائر الآن بدولة جنوب السُّودان، أضف إلى ذلك أن انشطار دولة الجنوب إلى دويلات صغيرة بعد الحرب سوف يمنح العدو الإسرائيلي التمدد في أوصال الدويلات الوليدة بما يهدد الأمن القومي لكل من السُّودان ومصر خاصة إذا علمنا أن جهاز (الموساد) يوجد منذ سنوات في جزر مثل جزيرة (دهلك) الإريترية نسبة لموقعها الإستراتيجي بالنسبة لأمن الدولة المطلة على البحر الأحمر. إذن إسرائيل التي تراقب عن كثب تداعيات الحرب بين (سلفا كير) و(رياك مشار) تعلم أن هذا المشهد هو بداية لفيلم طويل اسمه (حرب المياه) فليت دول (الإيقاد) التي تعتزم إجراء حوار بين طرفي النزاع تنظر لأهمية إخماد هذه الحرب مهما كانت فداحة التسوية التي سوف يدفعها طرف لآخر لأن التلكؤ في الوصول لحلول مُرضية للطرفين سوف يقود في نهاية الأمر دول محيطنا الإقليمي إلى هاوية سحيقة مليئة بالعديد من المخاطر والصعاب لأن انفلات الأمن بجنوب السودان سوف يلقي بظلال سالبة على أمن مصر والسودان وسوف يجر (إفريقيا الوسطى) لتكون طرفاً في هذه المصيبة بالنظر إلى وجود حركات دارفور المتمردة بتلك الدولة، لذلك على دول (الإيقاد) تسريع الخطى نحو معالجة عاجلة لهذا الصراع ولا بأس من إعادة النظر في المستوى الذي ينبغي أن يجري فيه الحوار، فليس من الحكمة أن تبدأ المفاوضات في المستوى الأول برئاسة (سلفا كير ميار ديت) رئيس دولة جنوب السودان وبين نائبه السابق ولا نقول المتمرد، فأنا أفهم أن يبدأ الحوار بين نائب لسلفا كير وبين رياك مشار وهذا لترك مساحة لمعالجة ما يطرأ من عقبات في المستوى الأول من الحوار، وبعدها يمكن رفع التمثيل في نهاياته الأخيرة ليكون على مستوى رئيس دولة الجنوب إن كانت (الإيقاد) حريصة على دعم شرعية الرئيس (المنتخب)!