السيناريو الدامي بجنوب السودان الذي كتب فصوله بحروف من نار وبارود عرابو «الانفصال» وقادة الحرب الطويلة ضد شمال السودان.. فهل انقلب السحر على الساحر.. وهل أدمن الجنوبيون الحرب فأصبحوا يحاربون بني جلدتهم.. ولماذا طفت الحرب الأهلية الجنوبية على السطح بعد الانفصال.. وهل كان اتحادهم ضد الشماليين يغطى على عداواتهم الداخلية بمنطق «عدو عدوي صديقي»؟.. وهل ما يحدث الآن بالجنوب من صراعات تصفيات لحسابات قديمة كان وميضها تحت رماد «مطالب ومكاسب نيفاشا»؟ ولماذا ظهرت تحالفات جنوبية جديدة على سطح الأحداث الدامية؟ وكيف صارت «ربيكا قرنق» وابنها حليفين «لمشار» الذي كان بالأمس في السبعينيات منشقاً عن قرنق.. وكيف صار لام أكول الذي كان حليفاً لمشار بالأمس حليفا لسلفا؟ وفي ظل هذا التصاعد في الأحداث هل هناك ظل متسع لبحث قضية «أبيي» أم أنها ضاعت في الزحام؟ ولماذا تظل الحرب مشتعلة رغم بدء التفاوض؟ وهل هو صراع سلطوي سياسي أم إثني أم تحكمه أشياء اخرى.. وهل صحيح أن صورة مصغرة للمؤتمر الوطني الشمولي بالشمال قد نقلت الى الجنوب بجامع تمركز السلطة في يد حزب أو تنظيم واحد وإقصاء الآخرين؟ ولماذا الحرب الجنوبية الجنوبية أكثر ضراوة من الحرب الشمالية الجنوبية قبل الانفصال، وما هو المتوقع من المفاوضات الجارية باديس ابابا؟ كل ذلك وغيره في حوارنا مع الأستاذ عبد الرسول النور الخبير بشؤون الجنوب ورئيس قطاع الجنوب «السابق» بحزب الأمة.. فإلى الحلقة الأولى من حوارنا معه: قضمية وأزمة جنوب السودان هل طغت على أزمة «أبيي» واستقطبت الاهتمام المحلي والإقليمي والدولي وما انعكاساتها على «أبيي»؟ أبيي ملفها أصلاً موجود بوصفها قضية عالقة بجانب مشكلات الاستفتاء الاحادي أخيراً، وبعض أبناء أبيي كانوا يطالبون بالانضمام لدولة جنوب السودان باعتبار أنهم يجدون أنفسهم وحقوقهم الكاملة هناك، والآن اشتعلت الحرب بالجنوب من أجل السلطة والثروة، وأزهقت فيها أرواح الملايين، فلا يعقل في ظل ذلك الاهتمام بالجزء دون الكل، فالمصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة. هل إذا تصارع الكبار والقادة داخل الجنوب تضيع قضايا الآخرين وتغلق ملفاتها الساعية للحل العاجل؟ في ظل اشتعال البيت الجنوبي والحركة الشعبية والجيش الشعبي وموت الآلاف وتشريد الملايين، لا يعقل أن نهتم برغبات ونزوات أفراد قلائل يريدون الانتقال من منطقة إلى أخرى، فهذا يتوقف على النتائج وأين ترسو سفينة الأحداث بالجنوب، وبعدها فلكل حادث حديث ولكل جزئية معالجات وآليات. إلى أين يسير الجنوب في ظل الخريطة الدامية المختلفة القسمات والجهات؟ الجنوب مرشح لقيام حرب أهلية طويلة به، وربما انقسم الجنوب الى اكثر من دولة، فهي لها شريط حدودي كبير جداً ومناطق كثيرة ومتنوعة. وكيف تقرأ هذا الواقع المرير بالجنوب حالياً ومستقبلياً؟ الواقع الآن بالجنوب يقول إن هنالك حرباً وهنالك انقسامات كبيرة بين مكونات الحركة الشعبية والجيش الشعبي، وكذلك هناك تحالفات جديدة وحالية وقد تطرأ غيرها بالمستقبل. لكن التحالفات داخل الحركة الشعبية والجيش الشعبي والانسلاخ والخروج على القادة ليس جديداً.. وإن اختلفت التحالفات والأدوار؟ إذا رجعنا الى الوراء سنة 1991م نجد ان رياك مشار ولام اكول وكاربينو وآخرين قد انشقوا عن الحركة الشعبية ضد «قرنق»، والآن رياك نفسه له حلفاء جدد منهم أرملة وابن «قرنق» الذي كان ضده يوماً ما، وامين الحركة الشعبية باقان أموم ودينق ألور كانوا من المقربين إلى الراحل «قرنق»، ولام أكول الذي كان حليفاً بالأمس لرياك مشار ووقعا سوياً اتفاقية الخرطوم للسلام تجده الآن حليفا للرئيس سلفا كير. ما يحدث بالجنوب هل هو صراع سلطوي سياسي أم إثني أم تحكمه أشياء أخرى؟ ما حدث بالجنوب نعتبره حرباً أهلية قاسية استخدمت فيها كل الأسلحة بين المجموعتين من الجيش الشعبي، وأصبحت بعض أدوات هذه الحرب القبائل، فقد صارت لدى «مشار» مجموعة من الجيش وتدعمه قبيلته «النوير»، وسيطر على مناطق «النوير» مثل «بانتيو». والطرف الآخر «سلفا» يدعمه الدينكا ولهذا سيطر على بحر الغزال الكبرى، وكذلك معظم مناطق الدينكا حتى الآن هادئة جداً، والآن القتال دائر بشدة في المناطق التي تسكنها غالبية متنوعة من النوير والدينكا مثل منطقة أعالي النيل. المفوضات الجارية الآن بأديس آبابا هل ستحل أزمة الجنوب مع تعنت الأطراف المتحاربة؟ المفاوضات التي ستجرى في أديس أنا شخصياً لا أتوقع أن تحسم الخلاف الدائر، لأن الطرفين رضخا للمفاوضات قسراً تحت ضغط دولي، حيث هدد كلاهما في حالة عدم الخضوع للمفاوضات أن يتخذ مجلس الأمن الدولي إجراءً حاسماً تجاه الرافض لها باستخدام البند السابع للتدخل في الأمر وحسمه. رغم بدء المفاوضات وإيفاد الوفود من الطرفين مازالت الحرب مشتعلة على الأرض.. كيف يستقيم ذلك دون وقف لإطلاق النار؟ رغم أن الطرفين لهما وفدان للتفاوض بأديس إلا أنه على أرض الواقع مازالت المعارك جارية، فكل طرف يريد تحقيق أكبر انتصارات على الأرض لرفع سقف التفاوض معه، فالمفاوضات ستستنزف وقتاً طويلاً بينما المعارك على الأرض ستستمر لأنها أصبحت مرارات وثأرات بين القبائل المتجاورة. الصراع بين القادة الجنوبيين الآن، وأصبحت المدن والمدنيون الجنوبيون ألعوبة في يد الساسة.. فبين محتل ومحرر تضيع آلاف الضحايا؟ الصراع وصل العظم بل اللحم الحي، وخلاف القادة وصل إلى القواعد وليس هناك خط رجعة، وكثر المتفلتون والغاضبون، والمثال الحي لذلك ما يحدث الآن في مدينة بور عاصمة «جونقلي»، بور التي خرج منها «قرنق»، فهؤلاء هم أهله وعشيرته، بور هذه تتقاذفها أيادي المتعاركين بين محتل ومحرر والسكان مصيرهم متأرجح، وفقد كانت «بور» في قبضة الحكومة فاحتلها مشار واستردتها منه الحكومة وأخرجت مشار ومجموعته منها، وللمرة الثانية احتلها مشار، والآن قوات سلفا تحاصرها، وكل اجتياح للمدينة يقابله ضحايا أبرياء يموتون ويشردون من ديارهم، فرياك «النوير» استهدف الدينكا وسلفا «الدينكا» استهدف النوير، واصبحت المسألة ثأرات متبادلة لا تنتهي. الآن »مشار« سمى جيشه »الجيش الأبيض« و»قرنق« كان يسمي جيشه »الجيش الأحمر« والفيصل بينهما الحرب الشمالية الجنوبية قبل الانفصال والحرب الأهلية الجنوبية الآن هل من مقارنة؟ سابقاً »قرنق« كان يسمي جيشه »الجيش الأحمر« والآن مشار يسمى جيشه »الجيش الأبيض«، وخلاصة الكلام أن الصراع والاقتتال وصل قمته، والقوات وتكوين الجيوش، وهذا يعني مزيداً من النازحين للسودان والدول المجاورة ممن حرقت بيوتهم ومزارعهم، والوكالات تناقلت أنه خلال أسبوعين من المعركة قتل مليون شخص، وخلال الحرب الأهلية بالسودان قبل الانفصال كان عدد القتلى على مدى خمسين عاماً من الحرب بين الشمال والجنوب »قبل الانفصال« كان لا يعدو المليونين، فالآن في أسبوعين مليون، ونتوقع خلال أسبوع أن تصل إلى المليونين، وفي سنة 1991م عندما انشق »مشار ولام وكاربينو« عن قرنق واحتلوا بور، حينها قال قرنق ان الذين ماتوا في هذه الحرب أكثر بكثير من الذين ماتوا خلال خمسين عاماً من الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، القتلى الأوائل في الحرب الحالية بالجنوب تجاوزوا المليون، فلو استمرت الحرب فإلى أي عدد سيصلون. لماذا ظهرت عداوات ومشاحنات الجنوبيين ضد بعضهم بعد الانفصال وهل كانوا يقاتلون قسراً ضد الشمال على نسق عدوي وعدو صديقي.. أم ماذا؟ خلاف الجنوبيين سابقاً مع الشماليين وحكومات الشمال غطى على خلافاتهم الداخلية، لأنهم حينها توحدوا لمعاداة السودان، وبعد أن زال العدو المتوهم انكشف الستر وظهرت ما تطفح به دواخلهم من أحقاد تجاه بعضهم البعض، فطفت على سطح الجنوب الدامي وجروحه النازفة تحت الجلد. تمركز السلطة في يد الجيش والحركة الشعبية بعد الانفصال وتجاهل الآخرين.. هل هو سبب الأزمة؟ أولاً الحركة الشعبية والجيش الشعبي مكونات من فصائل مختلفة، فالشيء المتوقع أثناء الفترة الانتقالية وبعد تحقيق مكاسب »اتفاقية نيفاشا« والحكم الذاتي، وكان المتوقع أن يعقد مؤتمر تأسيسي لتكوين الدولة والجيش الجنوبي، فالآن دولة الجنوب كلها يحكمها فصيل واحد، فالجيش جيش الحركة الشعبية والعلم علمها، وبقية المواطنين والأحزاب مجرد ضيوف في بلادهم. وماذا عن الآخرين ومصيرهم وتوقعات النتائج للراهن والسابق والمستقبل؟ الآن الحرب داخلية بالحركة والجيش الشعبي، والجنوب به أحزاب كثيرة غير الحركة منها حزب »سانو« و»جبهة الإنقاذ الجنوب« وغيرها من الأحزاب والمواطنين، والجيش الشعبي فصيل جنوبي لا يمثل الجميع، فهم الآن لا يحاربون الآخرين بل الحرب داخل منظومة واحدة، فبعد الانفصال الحركة أخذت السلطة والثروة من الآخرين الذين لم يجدوا شيئاً، فهؤلاء خارج حلبة الصراع الآن وخارج المفاوضات بأديس أبابا لأن المشارك فيها وفدان فقط واحد من الرئيس سلفا وآخر من نائبه السابق »مشار«، فالسؤال الذي يطرح نفسه هل الحركة الشعبية والجيش الشعبي إذا حلوا مشكلتهم هل هذا ينفي وجود آخرين داخل حلبة الصراع وربما يكون نذير خطر آخر. إذن فأنت ترى ضرورة إدخال كل الأطراف الجنوبية بالمفاوضات وليس الخصمان فقط «سلفا ومشار» لأنه شأن جنوبي؟ لا بد أن نضع في الاعتبار الآخرين من غير الحركة الشعبية، وندخلهم في المفاوضات حتى لا نفتح جبهة صراع جديدة، فمصدر قوة حكومة سلفا كانت تتمثل في تمركز القوة في يده، بمعنى أن حزبه له جيش يحميه، والآن الحزب والجيش انقسموا بين رئيسه ونائبه وأمينه، فما يحدث الآن هو صراع حول السلطة في أصله. يرى البعض ملامح النظام الموجود بالخرطوم نقل بحذافيره إلى جوبا بعد انفصال الجنوب.. فماذا ترى أنت؟ بعد أن وقعت اتفاقية »نيفاشا« وبدأت الفترة الانتقالية، نقلت صورة من المؤتمر الوطني الى الجنوب، فأجرت الحركة الشعبية انتخابات عامة فاز فيها »سلفا« بصورة أو بأخرى ونائبه كان معروفاً، فالجنوبيون كان هدفهم الاستقلال دون أن يضعوا خططاً لتسيير الدولة الوليدة، فقط وصلوا الى السلطة بالقوة بعد حرب طويلة، وصورة السودان والجنوب تتكرر في دول إفريقية مجاورة كثيرة.