صاح بطل المسلسل التلفزيوني المصري «سوق العصر» الذي عرضه التلفزيون السوداني قبل عدة سنوات قائلاً بانفعال «حلمي عسكر سرق الثورة» وهنا لعل بعض الأسئلة الحائرة تقفز، فكم عدد الثورات التي سُرقت في العالم الثالث والعربي بشكل خاص؟ وكم لدينا من أمثال حلمي عسكر طوال الحقب الماضية؟ وهل حلمي عسكر رمز للتسلُّط الفردي؟ أم هو إسقاط رمزي للمؤسسة المتسلِّطة في المنطقة؟ فلا شك أن حلمي عسكر يمثل أنموذجاً مكرراً وذو أوجه متعددة، فحلمي عسكر في المسلسل هو المغامر الجبان الذي يشارك في الثورة بعقل الانتهازي وقلب الرعديد، قدم في الداخل وأخرى في الخارج، فإذا نجحت الثورة أستأثر بخيراتها حتى الثمالة وتصدَّر صفوفها، وإن فشلت تبرأ منها ولعنها وسارع في تشييع جثمانها وإيصال قادتها للمشانق، وحلمي عسكر في المسلسل لا يسرق فقط الثورات وإنما يسرق أيضاً حتى نساء الرجال بعد أن يزج بأزواجهن في السجن ويلفق لهم التهم الكاذبة، فهل «عسكر» يمثل إدانة لمراكز القوى داخل الثورة فحسب أم إدانة للثورة نفسها؟ صحيح أن رجال الثورة ليسوا كلهم مثل حلمي عسكر ولكن هل كان من الممكن أن يظهر الرجل في ظل عهد تسود فيه الحريات وسيادة القانون؟ بالطبع ذلك صعب جداً ولكن قد يحدث جزء من ملامحه هنا وهناك، لكن الوسيلة قد تختلف لأن شمس الحقيقة الساطعة لا تسمح لأمثال حلمي عسكر أن يدفنوا ضحاياهم تحت جنح الظلام. كذلك فقد طرح المسلسل قضية مهمة تشكل محورًا للأزمة المركزية التي تواجه الثورات العربية باستمرار وهي قضية توزيع الاتهامات الجائرة على الشرفاء ودمغهم بالخيانة والعمالة، وعادة فإن الدفاع عن النفس لن يفيد لأن حيثيات الاتهام في تلك الأنظمة القابضة غير قابلة للنقاش ومختومة دوماً بختم الشك والإدانة المطلقة، فبطل الثورة ضحى بسنوات من عمره الزاهر وحتى عندما خرج من السجن كان من الممكن أن تطارده كل هذه الاتهامات التجريمية، وفي وقت يتقدم فيه الانتهازيون أمثال حلمي عسكر وينزوي فيه صناع الثورة الحقيقيون. وصحيح أن الحكم الانفتاحي قد يعزز أيضاً ألواناً من الجبروت والظلم وقد يسبغ عليه بختم الأغلبية، ولكن المهم أن قدرة الناس على الاحتجاج وتسليط الأضواء عليه يمثل العزاء لفرملة مثل تلك التجاوزات وتناميها. ونحن لا نبرئ بالطبع العهود الديمقراطية التعددية فقد ترتفع فيها سياط الظلم في بعض الأحيان، ولكن يظل مردودها دائماً محدوداً ومقدورًا على كشفه ومعاقبة مرتكبيه، بينما في عهود الظلام يتم الدفن وتتلاشى الضحية للأبد ويُكافأ الجلاد ويعشعش الخوف في ظل القهر وتدجن المواقف وتُبلتع إرادة الجماهير ويتحّولون إلى ما يشبه القطيع ويُساقون من بُعد. إذن فعلينا أن نبحث عن حلمي عسكر في كل عهودنا السياسية، ولكن قبل ذلك علينا أن نتعلم الدرس ونعي التجربة، فأمثال حلمي عسكر لا يتكاثرون إلا عندما يهاجمنا الانهيار الاجتماعي وتناقص الوعي الثقافي والسياسي ويتراجع الدين خطوات إلى الوراء ويتغلب القنوط على الإرادة الجمعية للجماهير، لكن لحلمي عسكر وجهاً آخر ناعماً، فأبو ملفحة عندما سمع المارش العسكري في الإذاعة سارع بلبس جلبابه الفخم وقفطانه المزركش ووضع ملفحته المذهَّبة وذهب إلى السوق وقال لصاحب متجر القماش: اسمع يا خينا أديني خسمة أمتار قماش دبلان ناصع البياض وكان عندك ظهرة أدينا ليها عايزين نكتب لافتة مكرَّبة نؤيد فيها الثورة المباركة، وعندما سأله صاحب الدكان عن هوية الانقلاب الجديد يقول أبو ملفحة: هويتهم ما مهمة المهم بس يكونوا ناس وطنيين ونحن أي واحد يمشي في مصلحة البلد دي بنقيف معاه، ويكتب أبو ملفحة بخط عريض «نقف مع الثوار الجدد ونشد من أزرهم.. اضربوا رموز العهد البائد بيد من حديد».. وأقنع بعض الصبية بالذهاب معه بعد أن أركبهم على عربته البوكس، وحين رأى عدداً من الدبابات أخرج يديه محيياً وهتف نحن مع الثورة الجديدة بينما ردد الصبية الهتافات، فإذا العساكر يوقفونه بصوت كالرعد «ثابت عندك»، وداس على الكوابح حتى كاد يطيح الصبية الصغار، وقال مرتبكاً الحاصل شنو نحن ما بنؤيدكم، فقال له الضابط الشاب تقصد تؤيد الانقلابيين؟ وهنا بدأ أبو ملفحة يرتجف وأمروه بالترجل من السيارة وظل يردد كالمجنون يا ناس انقلاب شنو نحن البنأيدوا عليَّ الطلاق نحن الحكومة دي مستعدين نموت عشانه ألف مرة بس ده خطأ مطبعي!