أثناء وجودي بوسط مدينة الأبيض حاضرة شمال كردفان، وبينما كنت احتسي فنجان القهوة وأطالع الصحف فإذا بسائق عربة «كارو» كان بجواري يسترق النظرات ليقرأ ما قالته صحافة الخرطوم، وعندما التفت نحوه سألني بصورة مفاجئة: «شكلك ضيف جرايدك كثيرة كدي»، فعرفته بنفسي وقلت له لست ضيفاً لكنني صحفي واهتم بمهنتي مثلما أنت مهتم بمهنتك، فداهمني بسؤال آخر قال: «هسي بالك كدي مشروعات النهضة القالها مولانا دي بتم وبتبقى مثل سد مروي والروصيرص، والأبيض دي بتبقى مثل بورتسودان في المعمار والنظافة»، وقبل أن أرد عليه أجاب هو بنفسه قائلاً: «والله لو ما تمت الرماد كال حماد». فقلت لمحدثي المتسائل المشفق إن المسؤولية مشتركة في هذا الأمر ما بين المواطن والحكومة التي هي مستويين مركزي في الخرطوم وولائي معكم هنا في الأبيض، وعلى مستوى الولاية ظهرت هناك إرادة وعزم وإنكم كسبتم شخصية تحب العمل وهو واليكم «أحمد هارون» وهو إبنكم وبعرف مكان وجعكم، هو الآن أخذ على عاتقه أن يعيد لشمال كردفان ألقها القديم ومكانة مدينة الأبيض بين مدن السودان وغرب السودان تحديداً بتشييد صروح الخدمات التي انهارت ويوفر لكم ماءً نقياً ومؤسسات صحية وتعليمية مقتدرة تلبي طموحاتكم إلى جانب الطرق القومية والداخلية.. وبوجودي في شمال كردفان تضاعف عندي أن مشروع نهضة كردفان بات يمثل أملاً لأهلها وصار حديثاً ينشده أي مواطن، بقي المهم في الأمر أن تفي الحكومة، وأن ترد الوفاء لأهل العطاء لأن كردفان ظلت بمواردها تحمي ظهر السودان وبتماسكها تشرفه.. كما أيقنت من حديث الأهالي وقراءة الواقع أن معركة النهضة في شمال كردفان لن تكون سهلة وسريعة، وما لم تأخذ الحكومة المركزية بيد حكومة الولاية يرجح أن تتراجع بعض المشروعات لأن التقيد بالأسلوب القديم في التعامل مع تمويل المشروعات ربما يعرقل مجاميع العمل المتداخلة ما بينها فإذا أخذنا مثلاً النداء الكبير الذي أطلقه النائب الأول لرئيس الجمهورية وقتها الشيخ علي عثمان محمد طه حينما زار الأبيض وبارا وأم روابة قبل سنوات، واستشعر أهمية أن ينهض مشروع كبير في شمال كردفان يلبي طموحات أهل المنطقة وهو النداء الذي تأسس عليه خطاب النهضة، وأطلق علي عثمان وقتها نداء نهضة كردفان وبعد افتتاحه مدرسة قرية«المرة» بمحلية غرب بارا تبرع بمائة مدرسة أساس ليتم تشييدها مباشرة كعربون للمشروع ولتسهم في حل أزمات التعليم بشمال كردفان التي يبلغ متوسط عدد الدارسين في الفصل فيها «60» طالباً وبالمدرسة الواحدة يوجد «480» طالباً ظلوا لسنوات طويلة بهذا الاكتظاظ بلا مأوى ولا إجلاس، تلفحهم شمس الصيف ويلسعهم برد الشتاء في كل محليات الولاية بلا استثناء بما فيها شيكان ناهيك عن المزروب وأم روابة والرهد وجبرة الشيخ وسودري المؤسف حقاً عندما سألت أمس عن حجم التنفيذ لهذا المشروع قيل لي إنه تم تشييد «5» مدارس فقط وتوقف العمل في «28» مدرسة أخرى لعدم التمويل وأن المشروع بجملته متوقف الآن. وبكل أمانة عندما سألت كنت أتخيل أنه اكتمل وتبحث النهضة عن فيض آخر، وبعد الإجابة الصادمة قلت في نفسي، إذن الأبيض محقة في أن تمارس حقها من القلق الخصب، وعندما سألت عن الجهة المنفذة قالوا إنها صندوق الإسكان والتعمير الذي يديره غلام الدين عثمان الوالي الأسبق لشمال كردفان، انظر هذا الصندوق لم يوافق على أن تكون شمال كردفان ضمن الولايات المتأثرة بالجفاف والتصحر وتستحق أن تشملها مشروعات الإسكان فبأي حق يعطي هذا التبرع الرئاسي الذي يفترض أن يمنح إلى مؤسسات الولاية حتى تعلن للعطاءات محلياً وينفذه مقاول محلي ليسهم فى التأهيل البشري وتدوير المال والاقتصاد محلياً بدلاً من ذلك المقاول الذي منح العطاء في الخرطوم وحضر للأبيض وهو يمتضي سيارة كوريلا ويسأل الأهالي عن شوارع سودري قال إنه ذاهب إلى هناك لديه مشروعات بناء مدارس، فصار من بعد مكان ضحك وتندر عند الناس هنا في الأبيض. هذا الصندوق المأمول أن يكون أكبر مؤسسة للتمويل العقاري ويشمل الاقتراض الفردي والجماعي ويأتي بتمويل من خارج وداخل البلاد، فكيف يتوقف مشروع «28» مدرسة، فلا أعتقد ان صندوقاً يمضي بهذه الوتيرة الضعيفة ينتظر ليغطي جميع التطلعات المستقبلية للبلاد في مشروعات النهضة العمرانية ويساهم في حل أزمة السكن في الولايات التي تعاني ويجلس طلابها تحت ظلال رواكيب القش والمواد المحلية الأخرى، وأن الذي يتجول في ريفي شيكان يرى العجب ومعتمدها المحترم يقيم الحفلات والرقص، نأمل أن يرتفع هذا الرجل لمستوى الهدف والرؤية الكلية لمشروع النهضة الكبير، ويؤكد حضوره في جوار مفهوم «مولانا» فلم مازال الكثيرون بالولاية لم يستوعبوا ضخامة المشروع بيقظة، فتحريك آثار مدينة الأبيض نحو الأفضل وإزالة وطأة المعاناة وحدوث الاستقرار ليس بالأمر السهل، فهي مغامرة ضاغطة، وهي مختبر لكيفية تجاوز الصعاب وتحقيق ما يراه البعض مستحيلاً بإرادة وعزيمة ثم تسجل أسماء الطاقم الذي أتم النهضة في سجلات العظماء الذين حولوا أحلام وطموحات أهل شمال كردفان إلى واقع معاش. وإلا ستبقى الحقيقة الجوهرية تعبث بفكرة النهضة وتجعلها شطحة من الأفكار العابرة.. «ويكون الرماد كال حماد» ..!!