ملك مدينة الفاشر وما حولها كان هو الملك رحمة محمود الذي انتقل الى جوار ربه بتأريخ الأربعاء 12 فبراير الجاري، ودفن بمقابر أحمد شرفي بأم درمان الى جوار الكثير من عظماء وقيادات هذا الوطن الكبير. ولد الملك رحمة بمدينة الفاشر سنة 1920، وهو من قبيلة الدادنقا التي سمي بأسمها الحي الواقع جنوبالمدينة على الشرق من شارع الفاشرنيالا.. نشأ في أسرة مشهورة معروفة حيث كان شقيقه محمد محمود«والد دكتور يحيى» يشغل وظيفة الملك بتكليف من الإنجليز الذين رأوا جدوى الاستثمار الإداري في بعض القيادات المحلية المميزة التي كانت حول مجلس السلطان علي دينار الذي سقط بدخول المستعمر إلى الفاشر عقب معركة سيلي المعروفة 1916م ويبدو أن للانجليز فلسفة خاصة في شؤون الحكم الأهلي والإدارة تستند إلى مفهوم تحريك المجتمعات المحلية بقيادات منها تعمل كمفاتيح إعلاء لكفاءة الأداء وتسهيلاً لمهمة التبادل المعرفي بين الحاكم والمحكوم، ولأجل ذلك اكتشف الإنجليز شخصية الملك رحمة محمود في مرحلة مبكرة توجوها بتعيينه في العام 1944 ملكاً علي الفاشر خلفاً لشقيقة الذي توفي إبان رحلة الحج بمكة المكرمة. وانتشر الملك الجديد أفقياً ورأسيا من خلال هذا المنصب الأهلي الذي مهد له الطريق بدخول الجمعية التأسيسية 1947 ممثلاً لدارفور، ثم عضواً في البرلمان الأول 1953م الذي مهد لاستقلال السودان.. وعلى خلفية نشأته في كنف الادارة الأهلية أظهر الملك رحمة انسجاما كبيرا مع هذا الموقع الملوكي البرلماني الذي شغله موفوره الطاقة منذ بواكير شبابه.. ولأن السياسة تجري في السودانيين مجرى الدم لم يجد الملك بداً من التعاطي لنيكوتين السياسة وشفطه بمزاج رايق في مقاهي حزب الأمة شأن أغلب السودانيين الذين اعتنقوا سياسياً هذا الحزب الكبير لأسباب تبدو أقرب الى ركوب موجة التاريخ منها الى القناعة بمفاهيم ورؤى الحزب بدليل الانسجام المطلق لكل قيادات الإدارة الأهلية في السودان مع مايو 69 والإنقاذ 89 وهو سلوك منطقي علي خلفية أن الإدارة الأهلية منوط بها تنظيم شؤون الموالين لها بغض النظر عن تبدل الحكام. بجانب نشاطه البرلماني ظل الملك رحمة الله محمود يشغل منصبا قضائيا كرئيس لمحكمة الفاشر الاهلية، وقد أظهر براعة مهنية عالية وحياد عادل أكسبه احترام الجميع على مدى 70 عاماً وهي الفترة الممتدة ما بين 1944 و2014، وبإجماع كل الأطراف نال الملك لقب المحكم الأوحد كأول زعيم أهلي مؤهل لفض أي إشكال بين طرفي نزاع دون الاستعانة بمجلس للأجاويد وهو إنجاز مهني أخلاقي غير مسبوق في تاريخ الإدارة الاهلية بالسودان. «حسب إفادة الباحث أحمد أدم يوسف الملقب بأبو الجيج»!! سيرة الملك رحمة محمود عطرة بما يكفي لتداولها والتباحث حولها باعتبار أنه كان منجما للمعلومات التي تحتاج الى تنقيب وبحوث في مجالات الحكم والقضاء والإدارة على خلفية عمره المهني الممتد لسبعة عقود، ورغم تقدم عمره فقد رحل عن الدنيا وهو في كامل الوعي والإدراك بكل الأشياء من حوله. وكل المؤشرات ترجح كفة بأنه كان رمانة الميزان في الصراع التقليدي على السلطة في دارفور ولذلك ظل الملك رحمة الله محمود محل تقدير كل زعماء العشائر بدارفور وما جاورها.. والسؤال الملح على خلفية الفراغ الناجم عن وفاته «رحمه الله وأحسن إليه» هل لدارفور سلوى في خير خلف من أبناء وأحفاد؟؟ رغم معرفتي التفصيلية لخريطة أسرة الملك بالفاشر والتي فيها من الخير والرجاء ما يكفي إلا أني مشفق على عملية سد الفراغ الذي خلفه انتقال الملك الى الرفيق الأعلى خاصة أن أبناءه من الذكور قد أخذهم تيار الحياة المدنية بعيدا عن حقول وفضاءات الإدارة الأهلية، ورغم نباهة كريمته الأستاذة سميرة الملك رحمة الله عضو المجلس الوطني إلا أن لأهل السودان مثلاً شهيراً «المرة كان فاس ما بتكسر راس».. ورغم كل هذه التحفظات آمل أن تعوضنا الأيام بمن هو على مقاس الراحل وربما تثمر عملية العصف الذهني الدائرة حالياً بين مكونات أسرة الراحل مع العديد من أهل الحل والعقد عن ملك جديد بمواصفات تواكب إيقاع العصر محافظة على الأصالة والتقاليد التي تميز بصمة الفاشر عن غيرها، وهذا القالب ربما يملأه ضرار محمد محمود باعتباره رجلاً عميق الاستيعاب لمجتمع الفاشر.. وربما يذهب إلى صديق الملك الموظف المثابر الخلوق الصبور.. وقد يكون قريباً من محمد الملك، غزير المعرفة الواسع الانتشار.. وفي كل الأحوال سيكون النجم القادم خير خلف لخير سلف... والله المستعان!!