ظلت قضية (حلايب) منذ عام 1958م معلقة بين السماء والأرض برغم تعاقب العديد من الحكومات الوطنية على سدة الحكم في البلاد، والسبب ببساطة ان الجانب السوداني في قضية هذه الأرض ظل يمارس تضليل الذات ودفن الرؤوس في الرمال، فقد أشاعوا قبل فترة ليست بالبعيدة أن هناك مساعي من قبل الحكومتين السودانية والمصرية لجعل منطقة (حلايب) نواة للتكامل بين شعبي البلدين، وليتهم لم يقولوا ذلك، فقد هبت السلطات المصرية وعبر سفيرها بالخرطوم لنفي تلك الأخبار جملةً وتفصيلاً، بل مضى السفير الى القول إنه لدى حكومته النية في هكذا عمل بمنطقة حلايب، وبعدها بأسبوع واحد صادق مجلس الوزراء المصرى على إنشاء عدد من المدارس بحلايب في خطوة تعتبر بكل المقاييس تصعيداً خطيراً لتمصير معالم المنطقة وإخفاء هوية مواطنيها السودانيين ممن ينتسبون لقبائل البشاريين، يجرى كل هذا تحت سمع وبصر حكومتنا الاتحادية والولائية في البحر الأحمر، حيث تقع حلايب السودانية في النطاق الجغرافي لمحلية (جبيت المعادن)، ونعلم جميعاً ان الهدف من إنشاء هذه المدارس ليس التعليم مقابل الغذاء وإنما التعليم مقابل الارض، فقد مرت سنوات طوال منذ ان تراخت الهمة الوطنية عن (حلايب) وأهلها، وبات الآن البشاريون في تلك المنطقة عرضة للابتزاز من قبل السلطات المصرية، وعملية التمصير قطعت أشواطاً كبيرة حتى أضحى التفريق بين ما هو سوداني ومصرى يحتاج لمحكمة دولية، والسبب ببساطة ان الحكومة الاتحادية هنا لا تود إثارة هذا الموضوع، بل كانت حكومة الإنقاذ الوطني في سنواتها الاولى تقول انها لا تود فتح جبهة باتجاه الشمال لأنها تخوض حرباً بالجنوب، ولكن الآن سقطت هذه الحجة، فقد انتهت الحرب بالجنوب فعلام الصمت حيال كل التصرفات المستفزة لشعبنا في مثلث (حلايب)؟ ألا تعلم الحكومة أن الصمت في مثل هذه المسائل الخطيرة يفقد قضية الارض تماسكها الموضوعي بأركان وجودها، وان هذا الصمت فيه إغراء للطرف الآخر لكيما يتمادى في المزيد من التعدى والعدوان. لقد سكبنا الكثير من المداد حول هذا الأمر برجاء أن تستنهص كلماتنا ضمير هذه الأمة فما ضاع حق وراءه مطالب، وليس هناك حق أكبر من قيمة تراب هذا الوطن، ونعلم أن أصغر دولة في هذا العالم (تقوم وتقعد) إن (هبشت) شبر واحد من ترابها، فبأي وجه حق يجري الآن تمصير تراب حلايب، وأى جرأة هذه تلك التي تتيح للجانب المصري حرية الحراك هكذا بلا مساءلة من جانب حكومتنا الاتحادية، وأى قيود هذه تلك التي تكبل حكومتنا وتمنعها من الحديث حول هذا الأمر، ولو ببضع كلمات تدين بها تصرفات الجانب المصري. هذا صمت مريب ولكنه قديم ومتجدد، فمنذ العام 1958م ظلت حلايب تحت الاحتلال المصري، وكلما نهضت حكومة من الحكومات السودانية المتعاقبة لفتح هذا الملف تم إغلاقه مرة أخرى بالمزيد من القيود. وخلال الأسبوع المنصرم الذي جرت فيه عمليات إنشاء المدارس المصرية بمثلث حلايب، سافر السيد/ علي كرتي وزير الخارجية الى (القاهرة) فظن بعض المراقبين للشأن السياسي ان الغرض من الزيارة هو إبلاغ القيادة المصرية احتجاجاً رسمياً على تصرفاتها بمثلث حلايب، كان هذا هو الظن السائد لدى معظم المراقبين السياسيين لتحركات وزير الخارجية، ولكن بعد انتهاء الزيارة اتضح ان الوزير لم يتحدث عن حلايب مع نظيره المصري لا بالتلميح أو بالإشارة وإنما قال في تصريحات صحفية إن الهدف من الزيارة كان تبادل وجهات النظر في بعض المسائل الثنائية وبعض القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك في إشارة الى سد (النهضة) ذلك البعبع الذي أفزع القاهرة أيما فزع، وقال إنه اتفق مع نظيره المصري على فتح المعابر في الحدود بين البلدين، ونسي أن الاهتمام الذي حظيت به زيارته الاخيرة للقاهرة نابع من اهتمام كل مواطني السودان بالأحداث التي جرت في مثلث (حلايب) بعد قرار مجلس الوزراء المصري الخاص بإنشاء المزيد من المدارس بتلك المنطقة دون مراعاة شعور الطرف الآخر وأحقيته في هذه الأرض. انتهت تصريحات وزير الخارجية التي أكد فيها أن الجانب السوداني مازال يصر على اتباع سياسة تضليل الذات ودفن الرؤوس في الرمال دون أن يبادر ولو لمرة واحدة بتوضيح أحقيته في هذه الأرض، ألا تملك وزارة الخارجية ملفاً متكاملاً عن مثلث حلايب؟ أو ليست هناك وثائق ومستندات تثبت هذا الحق السوداني الأصيل؟ ألا يعلم وزير الخارجية ان الاحتلال الانجليزي قد ترك لنا العديد من الوثائق التي تدلل على تبعية (حلايب) للسودان؟ ومن أهم هذه الوثائق خريطة مستر (بول) مدير مديرية كسلا في عهد الاستعمار البريطاني التي تعتبر من أهم الوثائق التي تثبت حقنا الأزلي في تلك الارض، وقد اطلعت على صورة طبق الأصل من تلك الخريطة في مكتب صديق لي ممن يدعمون الكلام بالوثائق وليس الأماني، ولا بأس من إهداء صورة منها للسيد وزير الخارجية ان كان ينوي العودة للقاهرة مرة أُخرى!!