ظلت قضية كيفية التعاطي مع ملف مدينة حلايب المحتلة هما يؤرق المراقبين، خاصة وان البلدين ظلا يضعان ملفها الحساس ، فى ادراج النسيان. الا ان القضية دأبت على أن تعود وتنفجر و تفرض نفسها على الساحة فى البلدين بين الفينة والاخرى، بفعل تفاعلات لقضايا اخرى مثل الانتخابات هنا وهناك،وتصريحات القيادات السياسية فى شرق السودان. وظل ملف حلايب عصيا على الحل يراوح مكانه لفترة ليست بالقصيرة فى ظل تعنت المواقف المصرية ازائه،ورؤية الرئيس السابق مبارك على وجه الخصوص له ، غير أن تصريحات الحكومة السودانية ،أمس الاول ، أعادت القضية الى صدارة المشهد ،بعد سقوط مبارك، فقد اعلنت الخارجية السودانية ان قضية مثلث حلايب الذى تحتله مصر غير خاضعة للتفاوض، باعتبارها قضية حق ، وشددت على ان الملف ظل من اهم اجندة الحكومات المتعاقبة بالبلاد. مشيرة الى ان الحكومة جددت احتفاظها بحقها القانوني والتاريخي فى القضية، عبر تجديدها سنويا طلبها المقدم لمجلس الأمن» حتى تظل القضية تحت النظر». فتصريحات الخارجية السودانية تكشف عن اتجاه جديد للتعامل مع هذا الملف السيادي بما يستحقه من اهتمام،وتثير اسئلة تتعلق بالمنهج الذى ستتبعه الحكومة للتعامل مع هذا الملف، فى ظل التطورات المتسارعة على الساحة المصرية، ومدى قابلية الدوائر المصرية الرسمية على الاستجابة لهذه التحولات، واستعدادها لاحداث اختراق حقيقي يقود لتسوية ملف حلايب الذي ظل خميرة عكننة بين شطري وادي النيل ، جملة من الأسئلة ربما يجد المراقب عن كثب لتطورات القضية وطبيعة التحركات المصرية ، طيلة الاعوام الماضية،على ارض المثلث المعزول إجابة عنها. اتفاقات غير معلنة عقب لقاء جمع البشير ومبارك فى شرم الشيخ المصرية العام قبل الماضي ، كشفت تصريحات لسفير السودان فى القاهرة عبد الرحمن سرالختم، ،عن اتفاق بين الرئيسين لحل وضع المنطقة، دون الاعلان عن فحواه.فى وقت ظلت فيه الاجهزة المعنية بالملف فى السودان ومصر تفرض تكتما على تحركاتها، وترفض ان تكشف عن مواقفها لاجهزة الاعلام. فيما شرعت جهات اعلامية مصرية فى الترويج لان السودان تنازل عن المطالبة بالمنطقة، الا ان حكومته تتحرج من اعلان ذلك ، وان الحكومة المصرية تتحمل الانتقادات السودانية الموجهة اليها بهذا الصدد، لانها تصدر عن شخصيات معارضة تتعمد اثارة القضية لاحراج الحكومة. إلا ان تصريحات البشير فى مدينة بورتسودان التي أكد فيها أن حلايب سودانية وستظل كذلك ، اعادت الملف من جديد الى سطح الاحداث، لتنفتح فى مقابلها ابواب الصمت المصرية ، لتأكيد مصرية حلايب بكل السبل ، حيث رد وزير الخارجية المصري السابق أبو الغيط آنذاك علي تصريحات البشير ، بقوله ان الحدود الجنوبية لمصر معروفة، وهي خط 22عرض .. لتخرج من بعد ذلك جهات سيادية مصرية ، بتصريحات معممة على اجهزة الاعلام، أن مصر تتعامل مع القضية باعتبارها فى حكم المنتهية، وان مصرية حلايب ليس عليها خلاف ، حتى تدخلت قيادتا البلدين لايقاف التصعيد الاعلامي حينذاك، والاتفاق على تهدئة الأمور واعتبار حلايب منطقة تكامل، وان كان ذلك بدون اتفاق رسمي مكتوب.لكن يبدو أيضاً أن هذا الاتفاق لم يتعدّ الجانب السياسي فقط، الذي غطّى على الأزمة ولم يعالجها بشكل كامل، لتظل حلايب «قنبلة موقوتة» بين القاهرة والخرطوم، قابلة للاشتعال في أية لحظة . وبالرغم من ذلك أكد الناطق الرسمي باسم مؤتمر البجا صلاح باركوين على سودانية حلايب، وأن هذا الأمر لا يحتاج لجدال،مطالبا الحكومة السودانية بالعمل على حسم ملفها، وقطع برفض أي حديث عن اعتبار حلايب منطقة تكامل. ولتخرج من جديد قضية حلايب ومعاناة اهلها من دائرة الاهتمام . الا من محاولات اهل المدينة المحاصرة، للتعبير عن معاناتهم وضيقهم من تجاهل ما يحدث لابنائها ، الذين يناهضون عملية التمصير الجارية ، والحصار الذي تفرضه عليهم السلطات المصرية بتقييدها لتحركاتهم دخولا وخروجا من المثلث. مشاريع تمصير لكن رغم الاعلان السيادي ظل الموقف المصري ، المتعامل مع سكان المثلث، يشي بشيء مختلف . فقد اعتمدت مصر منذ أن وضعت يدها بالقوة على المدينة ، على سياسة الترغيب والترهيب مع مواطنيها، واتبعت وسائل مختلفة فى ذلك، كان اكثرها بروزا محاولة استمالة شيوخ القبائل عبر الاغداق عليهم، وعلى السكان بمستوى من الخدمات غير معهود فى المدن المصرية نفسها . هذا بالاضافة الى خضوع المدينة الى عملية تنمية ضخمة للغاية، شملت البنى التحتية والمدارس والمستشفيات، في خطة اعدت بامتياز لتغيير هوية السكان واسلوب حياتهم . ولم تكتف الدولة المصرية بذلك بل وجهت منظمات المجتمع المدني ، لاسيما التي تعمل فى مجال تنمية المرأة الريفية، لاعتماد برامج تغير من طبيعة المرأة البجاوية فى المثلث، وتحضها على العمل فى مشاريع الاسر المنتجة وغيرها. واشتكى احد شيوخ المدينة من الضغط الذي تمارسه عليهم القاهرة ، من اجل ادخال أبنائهم الكليات العسكرية المصرية المختلفة. وهذه الشكوى توضح ما يحاول اهل المدينة، المعزولة عن وسائل الاعلام السودانية، ايصاله الى الجهات المعنية فى السودان. ويؤكد هذا الشيخ ايضا على ان الاغراءات والضغوط التى مورست مع سكان حلايب ، لن تجعل اهل المثلث يتخلون عن هويتهم، وينسلخون عن جلودهم. ورغم النجاح الذى حققته السياسة المصرية فى اختراق بعض وجهاء المنطقة، ودفعهم لانشاء حزب سياسي يعبر عنهم ، ويشارك فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية الماضية باسم الاتحادي الديمقراطي ، الا ان اهل المنطقة.. كما يقول احد سكانها، ابعد اليوم اكثر من ذي قبل عن الاستكانة الى الواقع الذى تركوا ليواجهوه وحدهم. واشار الى ما تعرض له الطاهر محمد هساي، رئيس مجلس حلايب جراء مناهضته للوجود المصري في حلايب، و كان هساي قد توفي في مستشفى في القاهرة ، بعد اعتقاله لمدة عامين دون محاكمة في مصر ، فيما يقبع عدد من ابناء المنطقة فى السجون المصرية لنفس السبب ،رغم مطالب مواطني حلايب الحكومتين المصرية والسودانية بإطلاق سراح أهاليهم المعتقلين بالسجون المصرية، والذين ظلوا محبوسين فيها لسنوات دون أن توجّه لهم أية تهمة، و فاضت أرواح بعضهم داخلها . ويبدو ان من تلك الوسائل التى اتبعت لتزييف هذه الارادة ، البيانات المزورة التى تنشر بين الفينة والاخرى على الشبكة العنكبوتية ، باسماء وهمية لمواطنين من المدينة لتبيان تمسكهم بمصرية حلايب، والاشادة بما وجدوه من اهتمام ورعاية من المسؤولين المصريين «بعد تحرير حلايب من القبضة السودانية». وهو ما يشير الى رغبة مصرية فى الاستعداد للمرحلة التالية من الصراع حول المنطقة والذي ربما أفضى الى الاحتكام للمحكمة الدولية. والتحرك المصري فى هذا الاتجاه ظل حثيثا لم يتوقف لحظة واحدة، منذ ان وضعت مصر يدها على المكان والسكان لم يقابله على الجانب الاخر تحرك يوازيه. ولا يغيب عن الذاكرة محاولة رئيس جبهة الشرق ومستشار الرئيس موسى محمد أحمد ، دخول المنطقة إبان جولاته الانتحابية ، فلم يستطع الولوج إليها وظل عالقا بأبوابها جراء رفض السلطات المصرية السماح له بالدخول ، ليعود الرجل فى صمت الى قواعده سالما ولم يفلح الغبار الإعلامي الذي أثاره هذا الرفض في تحريك جمود الملف . ولكن يحسب لقيادات الشرق ،محاولاتها المستميتة فى الاتصال بأهل حلايب، وعكس ما يدور فيها . ومن نافلة القول ان ملف حلايب فى مصر ، تديره شخصيات تتمتع بالخبرة والثقل النوعي فى الدولة ، علاوة على متابعتها لكل ما تبثه اجهزة الاعلام عن القضية. وهو ما يقودنا الى واقعة شهيرة تؤكد ذلك، نشرتها الصحف المصرية قبل اعوام ، حيث اتصلت هذه الجهات ببرنامج حواري على التلفزيون المصري ، لتوجه معديه ومقدميه لتغيير خريطة تظهر على الشاشة توضح وجود مثلث حلايب داخل الاراضى السودانية. ومن الشواهد على حثيثية التحرك المصري، فى اتجاه ترسيخ مصرية حلايب فى الاذهان، الاهتمام المتواصل بنشر اخبار وزيارات ونشاطات المسؤولين المصريين لها ، وتقديم تقارير مختلفة ومتواصلة عن عادات وتقاليد اهل المنطقة، وفنونها الغنائية والثقافية التى تتميز بها فى القنوات المحلية والفضائية . ولكن هذا الاهتمام الموجه لم ينجح فى ترسيخ مصرية حلايب فى الشارع المصري ، ولم يدمج اهلها وثقافتها وسحنتها المختلفة ، فى الاطار العام للدولة المصرية. غير أن خطورة العزلة التى يعيشها سكان المثلث ، لا تنبع من امكانية استسلامهم ورضوخهم ، للمخططات الهادفة الى تغيير هويتهم ، وانما تأتي من تأثيرات الحصار الذى يعيشونه نفسيا واجتماعيا ، والاحساس القاتم الذى يتملكهم بأن الدولة السودانية قد تخلت عنهم. اذ ان التجاهل تم لسكان المنطقة حتى من قبل الرسميين والشعبيين ، الذين يزورون القاهرة باستمرار. ويرى مراقبون أن إرجاء النظر في ملف حلايب بصورة نهائية مع مصر ، ربما يعود لانشغال الحكومة السودانية بتحديات جسام ، تتعلق بمصير جنوب البلاد ، وقضية دارفور، وعدم رغبتها في فتح جبهة في الشمال تقود لاصطدامها بالموقف المصري المتعنت ، الا ان رياح التغيير الأخيرة بأرض الكنانة التي عصفت بنظام مبارك، فتحت الباب لاعادة ملف حلايب إلى طاولة المفاوضات لتعود حلايب الى حظيرة الوطن.