ما برحت مصر ومنذ العهد الملكي وبعد قيام حركة ضباط يوليو الدولة القائدة إقليمياً بحكم ثقلها وتأثيرها العسكري والسكاني والثقافي والحضاري، وكانت مصر حاضرة وبقوة على الساحة الدولية والإقليمية وكانت منصة الانطلاق لكل مشكلات المنطقة عربياً وإفريقيا وإسلاميا بل حتى في قضايا السياسة الدولية فلقد وقفت ضد سياسة الأحلاف والمحاور في خمسينات القرن الماضي التي كانت الإدارة الأمريكية تنوي عبرها تطويق المد الروسي في المنطقة وحجزه بعيداً عن مناطق تعتقد أنها مناطق نفوذ لها، فرفضت فكرة حلف بغداد وحاربته الى أن تهاوى الحلف، وحلف دول آسيا الذي كان يضم تركيا وأفغانستان وباكستان وذهبت مصر أبعد من ذلك إذ عملت على محاربة الاستعمار في الإقليم بكل الوسائل، فقدمت الدعم لثورة الجزائر ضد فرنسا إلى أن نالت الجزائر استقلالها، ودعمت ثوار اليمن وأرسلت قواتها إلى الكنغو بقيادة سعد الدين الشاذلي لدعم الثائر باتريس لوممبا، ووقفت مصر بجانب سوريا إبان حقبة انقلاباتها وصراعها بحكم موقع سوريا في الصراع العربي الإسرائيلي، وكانت مصر حينها ترى أن عدو الأمة العربية والإسلامية الأول والأخير هو دولة الكيان الإسرائيلي لذا عملت جاهدة على تعبئة كل موارد الأمة من أجل معركة التحرير ولم تكتف بهذا فحسب، بل عملت الدبلوماسية المصرية وبنشاط ملحوظ في القارة الإفريقية من أجل محاصرة إسرائيل وعدم تمددها داخل إفريقيا لكن مصر بعد اتفاقية كامب ديڤيد بدأت تفقد بريقها الإقليمي والدولي سريعاً إذ دخلت في اتفاقيات أمنية وعسكرية مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل وبدأت تتعاطى الشأن الإقليمي عبر محور يضم السعودية وبعض من دول الخليج والأردن، وتكاد تكون مصر شبه غائبة عن إفريقيا بل حائرة بسبب التخبط السياسي، وخير شاهد على ذلك موقفها من إثيوبيا علماً أن حقبة عبد الناصر كانت العلاقة مع إثيوبيا تكاد تكون ممتازة رغم تباين التوجهات بين النظامين نظام عبد الناصر ونظام الإمبراطور، والشاهد الآن أن مصر أصبحت بعيدة كل البعد عن كثير من القضايا ولوقت قريب كان دور الدبلوماسية المصرية أشبه بدور منسق العلاقات العامة حتى في القضايا التي تمس الأمن القومي المصري، وزاد الحال سوءاً الدور المصري بعد الانقلاب الذي قاده المارشال السيسي الذي حول الجيش المصري من جيش مهني محترف ذي عقيدة قتالية وعدو معروف إلى جيش يطارد عصابات التهريب في سيناء ويطارد ويلاحق تجار الأنفاق بين غزة وسينا وتصفية وجود حركة الإخوان المسلمين والعدو المتخيل الذي لم يستطع أي جهاز في مصر أن يحدد هويته وهو أنصار بيت المقدس، ويبدو أن حقائق التاريخ لا تعرف الفراغ، فغياب أي عنصر في الساحة يأتي غيره ويملأ هذا الفراغ، والمؤسف الآن أن أصبحت الدبلوماسية المصرية والمؤسسة العسكرية في القاهرة متفرقة تماماً لجيب صغير على ساحل المتوسط وهو حركة حماس التي رغم الحصار المضروب عليها إلا أنها جذوة المقاومة الوحيدة التي تعبر بحق عن الحق الفلسطيني السليب، ولكن رغم كل هذه المعاناة التي تعيشها حماس من تضييق وإغلاق للمعابر إلا أن القاهرة أصبحت تنام وتصحو على إغلاق المعابر مع غزة ومطاردة تيار الإخوان المسلمين الذي خلق منه عدواً جيَّش له كل وسائل إعلام الدولة من أجل القضاء عليه واستئصاله نهائياً وهذا يجد التأييد والدعم والمؤازرة من بعض الدول الخليجية والسعودية تحديداً، وفيما يبدو أن مصر لن تتجاوز هذه المحنة في القريب العاجل. فالمجتمع المصري الآن منقسم على نفسه والجيش والشرطة أصبحتا غير محايدتين في هذا الصراع والنخب المصرية عاجزة تماماً عن التواصل مع الشعب بحكم سياسة التجريف السياسي التي مورست في عهد مبارك والتنكيل الذي تمارسه الأجهزة الأمنية بكل معارضي الانقلاب، إن هذا التيه الذي دخلته مصر الأسوأ من تيه قوم موسى، وفيما يبدو أن المستفيد الأول من هذا التشظي في الإقليم هو إسرائيل، فها هي سوريا تعاني من محنة الحرب الأهلية والطائفية التي تجاوزت العام الثالث بعد دمار شامل لكل شيء، وكذلك مصر بعد انقلاب المارشال السيسي على السلطة الشرعية فارقت مصر حياة الاستقرار وها هو الشارع المصري في حالة من الفوران والغليان والجامعات وطاحونة الدم تدور رحاها إذا دارت يميناً طحنت وإذا دارت يساراً طحنت، وليس في الأفق القريب بشارة مخرج للأزمة المصرية التي صنعها لها قائد الجيش بتلك المغامرة التي أدخل بها البلاد في محنة بل فتنة كبرى، وبكل أسف لم تجد حلما أمويا يستوعبها فها هي دول الاتحاد الإفريقي تلفظ مصر بعد انقلابها على السلطة المنتخبة شرعياً ولم تستطع مصر ولا الدبلوماسية المصرية تجاوز هذه العقبة بل فتحت مصر بوابات من العداء على دولة في حجم إثيوبيا وتأثيرها على القارة والضائقة المعيشية تمسك بتلابيب النظام في مصر من أزمات في الكهرباء والمواصلات والوقود وهجرة السياح لمصر وانقسام حاد في الشارع المصري وجامعات لم تعرف السكينة والهدوء منذ أن فعل المارشال فعلته، والمؤسف انه وجد من يزين له تلك الكارثة من مثقفين ودعاة ليبرالية وحتى رجال دين وقوة إقليمية تقدم الدعم إثر الدعم متناسية أن أزمات الشعوب تحلها وتتجاوزها المصالحات الكبرى عبر حوارات جادة وليست الهبات والأعطيات مهما كانت درجة السخاء، فالشعوب أكبر من الدراهم والريالات.