بهدوءٍ كما عاش، ودون ضجيج وجَلَبَة رحل عن هذه الفانية اللواء الركن «م» محمد عثمان محمد سعيد، تاركاً خلفه الدنيا، هو يواجه مخالب المنيَّة وروحُه تصعُدُ لعلياء السماء، بعد حياةٍ حافلة ورامزة عاش فيها لله متأدِّباً بما أنزل، سالكاً خير المسالك، متّبعاً هدى الرحمن ورضوانه. عرفتُ الرجل عن قرب بعد معرفتنا العامة به عند قيام ثورة الإنقاذ وهو من صُنَّاعها ومُفجِّريها، وراج في تلك الفترة أن مبلغ زهده كان عندما أبى أن يكون في مجلس قيادتها، وآثر خدمة الوطن والثورة الوليدة من حيث ما كُلِّف ومن أي موقع طُلب منه العمل فيه، وعرفه الناس علي رأس ولاية الخرطوم معتمَداً فيها حين كان منصب الحاكم لكل ولاية الخرطوم يسمى معتمَداً، وشكَّل ثنائياً غريباً وناجحاً ومدهشاً مع نائبه المقدَّم يوسف عبد الفتاح آنذاك، في يوسف فوران الشباب والحماس الثوري، وفي العميد آنذاك محمد عثمان محمد سعيد الحكمة والتعقُّل ورزانة الطبع وأدب الكلام والفعال. لكن معرفتي به عن قرب كانت عندما تم تعيينه بعد إعفائه من منصب والي ولاية سنار التي لم يبقَ فيها غير شهر واحد، أميناً عاماً للتكامل العربي السوداني الليبي، ففي يوم 4/4/1996م، جمعتنا به رحلة واحدة في الطائرة السودانية المتجهة لمطار مدينة فالتا عاصمة جزيرة مالطا، أيام كانت سودانير تجوب تلك الأجواء، وكان الحصار وحظر الطيران مفروضاً على ليبيا بموجب قرار مجلس الأمن عام 1992 على خلفية قضية لوكربي. عندما هبطنا مطار «فالتا» والشمس تودِّع الأفق الغربي نحو مغيبها كأنَّ فاه البحر الأبيض المتوسط يبتلعُها في مشهدٍ مهيب، وجدتُ اللواء محمد عثمان ومِسبحته في يده يغادر الطائرة وهو يردِّد أدعية وأذكارًا بصوت خافت ووجه مبتسم للجميع ويمضي في أروقة المطار بتواضع غريب، وقضينا معه ساعات في عاصمة مالطا قبل التوجه نحو الميناء أو المرسى كما هو في اللغة المالطية التي استوعبت الكثير من المفردات والكلمات العربية، كان الرجل طيلة الساعات التي سبقت صعودنا الباخرة المتجهة بنا لطرابلس، لا يتحدَّث إلا لماماً ولا يفتر فمُه إلا بحمد وشكر وقول مأثور وتذكرة لمن خاف مآب. في الباخرة وكان معه آنذاك مدير مكتبه وساعده الأيمن في التكامل الأخ الكريم طه عثمان مدير مكتب الرئيس الحالي، وكانت بينه وبين طه علاقة ود واحترام وإجلال كبيرة يندر أن توجد، دارت بيننا أحاديث قصار لكنها غنيَّة بالمعاني ونحن في جوف الليل والبحر المظلم تلك الليلة حتى وصلنا ليبيا، وبدأت معرفتنا به عن قرب في تلك الفترة، وعرفناه على حقيقة نفسه وتسامي روحه، كان وللحق رجلاً عفيفاً شريفاً وقوراً لا يحمل ضغينة على أحد ويكظم غيظه ويعفو عن الإساءة مهما كانت، يتحمَّل في قلبه الكبير كل ما يصدر عن الآخرين ضدَّه، فقد عمل على ترسيخ دعائم التكامل السوداني الليبي في ظروف علاقات معقَّدة بين البلدين في تلك الفترة رغم الزخم الثوري الذي كانت تحمله الشعارات هنا وهناك، واجه عنتاً كبيراً من الأجهزة الليبية ومؤسسات الحكم هناك، ووجد عقبات كثيرة كانت تقف أمام الحلم الكبير الذي جاء من أجله ورضي بما كان يجده من سوء من الأقربين وهو يكدُّ ويعمل. كان بسيطاً في عيشه، لم يذهب كالآخرين وهو في طرابلس لاستئجار قصر فخم يعيش فيه على حساب الأمانة العامة للتكامل، رضي بغرفة صغيرة جوار مكتبه، وفشلت كل محاولات الجميع حوله في إقناعه بأن يعطي نفسه مشتهاها، لكنه قهر رغبات النفس وأقعد نفسه مقعدها ومنعها رغائبها الدنيوية الزائلة. وحتى مغادرته ليبيا، بعد عامين تقريباً وكنا نزوره لم نره مغاضباً أحدًا، ولا مبدياً شُحَّ نفسه، ولا رافعاً صوته، كان خُلُقُه القرآن الكريم، وطبعُهُ الصبر على المكاره والغضُّ عن الأذى، وهكذا سارت حياته كلها حتى لقي الله، عزيز النفس أبيَّ الجانب، صادقًا في قوله وفعله ومع ربه، لا يماري ولا ينافق ولا يكذب ولا يُظهر للناس إلا ما في قلبه ودواخله. وفي محنة المرض زرتُهُ في مشفاه في العاصمة البريطانية لندن عام 2009م، كان يواجه المرض بجَلَد واصطبار، لم تفارقه ابتسامتُه ولا هدوء صوته الذي يشبه الخَفَر، له نفسٌ راضية مرضيَّة ومطمئنَّة، وأعطى ولم يأخذ من الدنيا شيئًا حتى غادرها، ولو وجد غيرُه ما وجد من عَرَضها الزائل لكانوا قد تطاولوا في البنيان ولغرقوا حتى آذانهم في مباهج الدنيا وزيْفها، أما هو فلا، فقد عاش غريباً عن كل هذا وما أسعده بلقاء ربه صافي السريرة أليس نهاية اسمه «سعيد».. رحمه الله رحمة واسعة وجعله في عليين..آمين.