كانت المناسبة هي المشاركة في المؤتمر الإسلامي الدولي المنعقد بالمدينة العلمية والروحية للملكة المغربية مدينة (فاس) حيث جامعة القرويين التي أسست عام 250ه كأول جامعة في العالم إذ أسستها السيدة فاطمة الفهرية حفيدة عقبة بن نافع الفهري فاتح إفريقيا ومؤسس مدينة القيروان بتونس.. في جامعة القرويين قام بالتدريس كلٌ من العلامة ابن خلدون صاحب المقدمة وابن رشد صاحب بداية المجتهد ونهاية المقتصد والقاضي أبوبكر بن العربي المالكي صاحب العواصم من القواصم والفيلسوف ابن طفيل وابن باجة. وفي مدينة فاس يرقد العارف بالله الشيخ أحمد التيجاني رضي الله عنه الذي يُعد أتباعه بعشرات الملايين في منطقة غرب إفريقيا، كذلك تضم مدينة فاس مرقد المولي الإدريس مؤسس مدينة فاس ومرشد الطريقة الإدريسية، كذلك يرقد في هذه المدينة الساحرة العلامة القاضي المالكي أبوبكر بن العربي صاحب كتاب العواصم من القواصم. كل هذه المعالم التاريخية وغيرها من التراث الحضاري الرصين الذي يوجد في مدينة فاس القديمة التي ما زالت تحتفظ بمعمارها وحضارتها القديمة وأسوارها التي شيدت قبل ما يقارب الألف عام أو يزيد.. فهي مدينة ساحرة وجميلة وجذابة.. أما أهل المغرب فهم قمة الحضارة والرقي والحداثة والتسامح إذ تتعامل معهم وكأنك بين أهلك في السودان ولعل ذلك مما سهل عملية التزاوج المضطردة بين الشباب السوداني والشابات المغربيات اللائي يتمتعن بسمعة طيبة جعلت معدلات عقود الزواج في السفارة السودانية بالعاصمة المغربية الرباط تصل إلى 150 زيجة سنوية من شباب سودانيين وآنسات مغربيات مما يعني أن هنالك هجرة مرتدة نحو المغرب أو رد لجميل المغاربة الذين جاؤوا السودان قبل مئات السنين وتزوجوا من سودانيات واستقروا في شكل قرى كثيرة منتشرة في السودان تحمل اسم (المغاربة) وتعتبر منطقة (ود أ بوصالح) من أشهرها وكذلك (دار السلام المغاربة) و(المغاربة) شرق مدني بل حتى في أبي حراز حاضرة العركيين يشكل المغاربة نسبة كبيرة وكذلك العديد من قرى الجزيرة مما أغرى البروفيسور مالك حسين ذو الجذور المغاربية للترشح لمنصب والي الجزيرة في الانتخابات الماضية. بعد نهاية مؤتمر الوسطية الذي سنفرد له حلقة خاصة توجهت نحو العاصمة المغربية الرباط هذه المدينة الساحرة النظيفة الحديثة ذات التخطيط الراقي والجذاب. الرباط ترقد على الضفة الشرقية للمحيط الأطلسي وتمتاز بساحل يرفده الشباب والأسر من السياح المواطنين والأجانب إذ تسهم السياسة في إيرادات المملكة المغريية بما يزيد عن خمسة مليار دولار سنوياً. في ضواحي هذه المدينة الجميلة في حي سيدي العابد يقيم هَرَم الشعر العربي وشاعر إفريقيا الشاعر محمد مفتاح رجب الفيتوري مع زوجته المغربية الحقوقية السيدة رجات أرماز المولودة عام 1961م. عندما يذكر الفيتوري تتبادر إلى الذهن قصائده الرائعة: في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق وزحمت براياتي وطبولي الآفاق عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق مملوكك لكني سلطان العشاق. ثم قصيدته (ياقوت العرش) التي تمثل قمة الأدب الصوفي والزهد في الدنيا وتقدم فلسفة كاملة للحياة والتي نقتطف منها: دنيا لا يملكها من يملكها أغنى أهليها سادتها الفقراء الخاسر من لم يأخذ منها ما تعطيه على استيحاء والغافل من ظنّ الأشياء هي الأشياء! تاج السلطان الغاشم تفاحه تتأرجح أعلى سارية الساحة تاج الصوفي يضيء على سجادة قش صدقني يا ياقوت العرش أن الموتى ليسوا هم هاتيك الموتى والراحة ليست هاتيك الراحة والفيتوري من جيل الرواد الذين ولدوا في العقد الرابع من القرن العشرين في عام 1936م بمدينة الجنينة بدارفور وقد كانت أسرته أسرة دينية فوالده الشيخ مفتاح رجب الفيتوري من أصل ليبي وكان خليفة خلفاء الطريقة العروسية، الشاذلية، الأسمرية. وكعادة المثقفين السودانيين حيث حفظ القرآن بالمعهد الديني بالاسكندرية ثم انتقل إلى القاهرة وتخرج في الجامع الأزهر بالقاهرة، عمل محررًا أدبياً بالصحف المصرية والسودانية، وعين خبيرًا للإعلام بالجامعة العربية، ثم عمل مستشارًا ثقافياً في السفارة الليبية بإيطاليا. كما عمل مستشارًا بالسفارة الليبية ببيروت. ثم مستشارًا سياسياً وإعلامياً بسفارة ليبيا بالمغرب. يعتبر الفيتوري جزءًا من الحركة الأدبية السودانية. عند الساعة الخامسة مساءً الموافق الأربعاء 2/4/2014م ووسط أمطار ربيعية منعشة توجهنا صوب حي سيدي العابد بريف العاصمة المغربية الرباط كانت مجموعتنا تتكون من القنصل العام لسفارة جمهورية السودان بالمملكة المغربية المستشار حمزة عثمان عمر ثم الدكتور زين العابدين أحمد المصطفى الأستاذ بجامعة إفريقيا العالمية ثم شخصي الضعيف، أما المجموعة الثانية فكان يتقدمها القائم بأعمال سفارة السودان بالمغرب المستشار محمد علي التوم ومراسل قناة الشروق بالمملكة المغربية.. توقفنا جميعاً أمام بوابة منزل الشاعر الفيتوري حيث استقبلتنا عند باب المنزل الخارجي السيدة حرم السيد الفيتوري الأستاذة الحقوقية رجات أرماز وهي مغربية خريجة قانون من جامعة محمد الخامس بالرباط. صعدنا إلى الطابق الأول لنجد شاعرنا الفحل ورغم ظروفه الصحية المعقدة ينتظرنا جالساً على كرسي يشير بيديه ويتمتم بعبارات لو أفصح عنها لكانت درر من الشعر ثم يصيح قائلاً: (الله).. لقد بكي الفيتوري عندما أقبلنا عليه نقبل رأسه ويديه تكريماً لرمز من رموزنا وفخرنا وحاضرنا الحي الزاخر بالمعاني والقوافي والأشعار والمسرحيات الوطنية والبطولية.. فنحن أمام شاعر إفريقيا وثائرها الذي كان من أعماله ديوان «أغاني إفريقيا» وديوان «ثورة عمر المختار» و«ابتسمي حتى تمر الخيل». جلسنا في حضرة الفيتوري وزوجته رجات أرماز تحكي لنا الكثير المثير عن الفيتوري وحبه للسودان.. لم نحظ بوجود ابنة الفيتوري السودانية الأب والمغربية الأم الطالبة (أشرقت) ذات السبعة عشر ربيعاً والتي تقرض الشعر كوالدها ولكن باللغة الفرنسية. من غرائب الصدف أننا في اللحظات التي كنا نتوجه فيها لمنزل الشاعر الفيتوري، في تلك اللحظات انتقل عن دنيانا الشاعر الفحل محجوب شريف الذي تغنى للوطن منادياً بالقيم السودانية الأصيلة وداعياً للعفة والفضيلة في ثورة تشبه اشتراكية المؤمنين التي تحدث عنها خالد محمد خالد ويتخذ البعض الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رمزاً لها.. رحم الله محجوب شريف فقد عاش شريفاً ومات شريفاً مفعماً بحب الوطن والمستضعفين. نعود إلى لقائنا مع أسرة الفيتوري إذ أنه في تلك اللحظات كانت وزارة الخارجية قد استخرجت جوازاً دبلومسياً للشاعر الفيتوري وجاء الإخوة الدبلوماسيون بقيادة القائم بالأعمال والقنصل العام لتسليم الفيتوري بل أسرة الفيتوري ذلك الجواز.. فوزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية تشكر على ذلك الصنيع الجليل الذي يؤكد هوية الفيتوري ويحفظ له موقعه المتميز كشاعر ودبلوماسي رصين، لكن والحق يقال إن الشاعر الفيتوري وهو يطرق أبواب الثمانين من العمر وفي ظروف صحية معقدة فإنه يحتاج لما هو أكثر من الجواز.. الفيتوري يحتاج أن تخصص له حكومة السودان معاشاً شهرياً يصله بصورة منتظمة من سفارة السودان بالمملكة المغربية خاصة أن معاشه الليبي قد توقف بعد سقوط القذافي وأصبح مرتبطاً بعودته إلى ليبيا كما أفادتني بذلك زوجته السيدة رجات أرماز.. ومن هنا فإني أخاطب السيد رئيس الجمهورية بكرمه الحاتمي قائلاً: (لا تنسى الفيتوري يا سيدي).