رحل الشاعر محجوب شريف وهو شاعر الشعب والناس الغلابا. وكما قال عنه الشاعر فضيلي جماع: أهكذا الرحيل خلسة يا عود صندل الحريق أهكذا نودع الملاحم المصادمات فيك؟ يا شريف أمة توشحت سوادها وزرفت بحار دمعها عليك وكما قال الهادي المالكي من العراق فقد كان الشاعر محجوب شريف كثير النكتة ظريفا بشوشا رغم ما تحمله قصائده من الأدب الثوري والتنويري المشبع بالمثل الإنسانية النبيلة التي تحاكي الوجدان والضمير. وكانت قصائده تدخل القلب بلا استئذان فهو يكتب الهموم الحقيقية للشعب ويكتب للناس التي أحبها ويعمل بكل قواه وطاقته من أجلها.. إن أسلوبه قريب من أسلوب الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي إنه أبنودي السودان، وأيضا قريب الشبه بالشاعر أحمد فؤاد نجم، وقال عنه الشاعر جيلي عبد الرحمن وهو يقدم لديوانه «الأطفال والعساكر» إنه قمة للفن الثوري الأصيل. لقد أحب الشعب السوداني الشاعر محجوب شريف لكونه بن بلد طيباً وبسيطاً ومقداماً وملهماً لفكرة الحرية والديمقراطية عندما تكون فكرته وحده جلس إليها واختلى بنفسه بعيداً عن الوسواس الحزبي والشعارات التي سدت ضوء الشمس عن الشاعر فأغرق نفسه في لج الدكتاتورية ومشى في أوحالها حاملاً سيف مايو ولواءها بأمر الحزب الذي أخرج المسيرات المؤيدة للنظام وقدم طلائعه الشبابية والثقافية لتأمين الثورة الوليدة «ثورة مايو» كما سموها وكنوها ودللوها «وكما هو الحال في البلد الأم للماركسية» فإن كل شيء يومها لا بد أن يكون في خدمة النظام: الشعر والصحافة والأغنية، فجاءت قصيدة حارسنا وفارسنا التي غناها وردي وهو أيضاً من مسخرات الحزب الشيوعي لمايو ولكن وردي أحس بهذا التسخير وأدركه ونفض يده كما نفض محجوب شريف يده، وكان أميناً وصادقاً مع نفسه فقال أنا غنيت لمايو وأنا شاعر يا حارسنا وفارسنا وأيضا شاعر «لاك حارسنا ولاك فارسنا»، وهذا هو الفرق بين أهل الإبداع من شاكلة الشاعر محجوب شريف وأهل الأيدولوجيات الذين يبررون للناس أفعالهم وأقوالهم، وهذه الغيبوبة هي من فعل الأيدولوجية وليست من فعل الشعوب ومبدعيها الذين تلوح لهم الآمال فيجرون خلفها حتى إذا تبينوا أنها سراب عادوا منها وهم يبحثون عن الجديد والمفيد في حياة أمتهم.واليوم الشيوعيون ومن الأفضل أن نطلق اسم صبية الشيوعيين كما سماهم أحد الإخوة، يريدون أن يضيقوا الواسع من سيرة الرجل صاحب الشعبية الواسعة والاصطفاف الشعبي من حوله وينصبوا من أنفسهم وصياً عليه وعلى إبداعه مرة بالتبرير ومرة أخرى بالاحتكار ومحاولة اختزال أشعاره وإبداعه في ذاتهم، ومحاولة التوثيق له بعد رحيله على طريقتهم الخاصة التي لا تخلو من انتهاز للمواقف وابتسار للحقائق البينة، وهو الذي كان بين ظهرانيهم يأولون مواقفه وصمته عن بعض خيباتهم لمصلحتهم فهو وإن كان له رجاء في انقلاب يوليو 1971م بقيادة هاشم العطا فلم يعرف أنه قد ذكر ذلك الانقلاب الذي وقع بين عسكر مايو كما قال نزار قباني على طريقة «عناكب قتلت عناكب وعقارب أكلت عقارب». ولكن الأدعياء منهم يقولون إن الشاعر محجوب شريف كان حزيناً ومحبطاً لفشل المحاولة الانقلابية التي قام بها الرائد هاشم العطا والتي لولا أن القوي الرجعية «ولا أدري ما تلك القوى الرجعية» قد أفشلتها وهي حركة تصحيحية قام بها الشيوعيون انتقاماً من جعفر نميري أو استبداله بعسكري آخر. وبعد الانتفاضة الشعبية في مارس أبريل من عام 1985م كان إيمان الشاعر بالشعب كل الشعب قد زاد على حساب الرؤية الآيدولوجية التي لم يكن له فيها نصيب كما قال الدكتور عبد الله علي إبراهيم، وكان الناس كل الناس هم مقصده: يا شعبا تسامى ويا هذا الهمام.. تفج الدنيا ياما.. وتطلع من زحاما زي بدر التمام.. ورأى أن يستريح الشعب من رهق الآيدولوجية وعنف الطليعة التي تحلم بالوصول إلى السلطة على دراجة الحركة الشعبية لتحرير السودان وملاحم جون قرنق وعطاءات منقستو هيلي ماريام في إثيوبيا، فقال باكراً ولم ينتظر رؤية قرنق في الانتفاضة بأن المجلس العسكري هو مايو رقم(2) : وطن التعدد والتنوع والسلام.. حيث الفضاء الواسع حمام.. والموجة خلف الموجة والسكة الحديد حرية التعبير... تفتح شهيتك للكلام... النهر ما بستأذن الصخرة المرور.. وما أخطر الأيدولوجيا حينما تمارس لعبة التبرير والتأويل. وما وجده محجوب شريف من هذا الأسلوب فوق طاقة البشر، وهذا النوم في عسل أشعار الرجل الذي مارسه الشيوعيون بامتياز جعل من بلبل غريد مثله سجيناً خلف القضبان وحبيساً بين الجدران لأن أيدولوجية الشيوعيين جعلت من شعره بعبعاً يخيف النظام العسكري الذي سجنه سنين عددا وحرم منه أسرته الصغيرة وضاعت كثير من أشعاره لأنه لم يكن يجد حتى الورقة التي يكتب عليها القصيدة وهو الحبيس الخطير مع أنه شاعر مطبوع وإنسان مسالم لأبعد الحدود، ومما تم تأويله لصالح السياسة والآيدلوجيا والفكرة المدعاة قصيدة أنا مجنونك التي غناها الراحل محمدوردي. وكان محجوب يخاطب زوجته التي يقال إنه اُعتقل ولم يمض على زواجهما أكثر من يومين حيث يقول: معاكي معاني حياتي بتبدأ... وافتح باباً يا ما انسد... وأشوف العالم ربوة جميلة عليها نسيم الصبح مخدة.. وبيني وبين النهر عشانك عشرة بتبدأ... وبين عيني خد الوردة بتبقى مخدة.. أصالح روحي وتبرا جروحي أهلل باسمك أهلل أغني.. وأفيق واتحدى.. بحبك أنا مجنونك ساكن فيني هواك وبريدك.. جو القلب والنبض بصونك.. رحمه الله وأحسن إليه. اللقلقة هي طبعاً كلمة دارجة سودانية تعني الشفقة، والسودانيون يقولون الشفقة تطير.