يحاول الغرب حشر روسيا في زاوية ضيقة لتحجيم دورها في أوروبا والعالم، وقد نجح لحد ما في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث كان الشعور العام في داخل روسيا وقيادتها الانكفاء على الذات، وقد مرت روسيا بفترة عصيبة كادت تقضي على التاريخ العريق للدولة الروسية التي كان لها شأن في السياسة العالمية عشرات القرون السباقة!! وإذا كانت روسيا قد عرفت مصطلح الدولة قبل آلاف السنين فإن الولاياتالمتحدة تعرفت على المصلح قبل ثلاثمائة عام!! والفرق بين الشعب الروسي والشعب الأمريكي أن الشعب أصيل ولد في الأرض الروسة وترعرع فيها، أما الشعب الأمريكي فهو شعب مصنوع، قام على حساب آخر بعد إبادة جماعية، وما قامت أمريكا إلا بعد إبادة عشرين مليوناً من السكان الأصليين أصحاب الأرض الحقيقية، بعد مجازر مخيفة وإرهاب دموي سالت فيه دماء السكان الأصليين أنهاراً!! وكل جهود الغرب وبالذات أمريكا تبذل لاحتواء روسيا وبقائها في ذلك الركن المظلم ولا يخرج صوتها إلى بقية العالم الذي نعيش فيه ونتعامل معه، كانوا يريدون لروسيا أن تكون مورداً للموارد الطبيعية التي تذخر بها وخاصة البترول والغاز وروسيا أكبر منتج في العالم للبترول والغاز!! وحدث ما حدث لروسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي من تدهور وتدمير متعمد، إلا أن الأمور سارت على عكس ما يخطط الغرب، حيث نهضت روسيا من جديد كقوة عالمية لها شأن واستعادت بذلك مركزها وقوتها!! حتى النفط والغاز اللذان يعتمد عليهما الغرب أرادوا أن يجردوا روسيا منهما وكانت الصفقات تدبر في الظلام لبيع أسهم شركات النفط والغاز لشركات أمريكية تلك المؤامرة التي نجح في إحباطها الرئيس بوتن!! وحشر روسيا في الزاوية المظلمة لم ينجح وقد وقفت الإرادة القوية للشعب الروسي وقيادته ضد هذا الاحتواء، فعمدوا إلى أكرانيا، وكان الغرض من ذلك حرمان روسيا من التواصل مع بقية دول العالم وكيف يتم ذلك؟! من المعروف لدى الجميع أن البحر الاسود وآزوفر هما البحران الدافئان الوحيدان اللذان يقودان روسيا إلى البحار الدافئة في العالم. هذا المنفذ تتحكم فيه أكرانيا التي سمحت للأسطول الأمريكي بالرسو في موانئ جزيرة القرم!! هذا يعني ببساطة أن أمريكا بعد فشلها في احتواء روسيا سياسياً واقتصادياً تحاول خوض تجربة الاحتواء العسكري، وتحركات حلف الناتو تدل على ذلك، فالدرع الصاروخية التي اقترحتها أمريكا في بولندا وتشيكيا تصب فيما يعرف بالاحتواء العسكري والأحداث في أكرانيا تصب أيضاً في هذا الاتجاه حيث يصبح الأسطول البحري الروسي مشلولاً تماماً! لكن مجريات الأحداث أحبطت مخطط الاحتواء العسكري الذي كانت تخطط له أمريكا، ومرة أخرى فرضت الإرادة الشعبية نفسها وبطريقة سلمية وحضارية حيث نظم شعب شبة جزيرة القرم استفتاءً شعبياً حراً أعلنوا فيه استقلال شبه الجزيرة عن أكرانيا وانضمامها لروسيا الاتحادية!! إن تحكم الغرب في أكرانيا وبالتالي في شبه جزيرة القرم يضع روسيا فريسة للاحتواء السياسي والاقتصادي والعسكري معاً، حيث لا تستطيع روسيا التواصل اقتصادياً والوصول إلى البحار الدافئة اقتصادياً على أقل تقدير إن لم نقل سياسياً وعسكرياً!! في هذه الحالة كيف سيكون حال الشعب الروسي اقتصادياً؟! وسوء الحالة الاقتصادية يقود إلى التململ الشعبي وتظهر الحركات الانفصالية في روسيا، وتطبق عليها ذات السياسة والمخطط المنسوب إلى هنري كيسنجر وهو سياسة البلقنة التي طبقت الآن في الشرق الأوسط، ونحن نرى آثار هذه السياسة على العراق وليبيا وسوريا والسودان، وربما تدار في الخفاء في مصر!! في أكرانيا رفع الانقلابيون شعار النازية، واحتياطاً ذهبوا إلى السفارة الإسرائيلية وطمأنوها بأن إسرائيل لن يمسها ضرر من حركتهم النازية، والمعروف أن النازية قامت أساساً ضد السامية!! وتطمع المانياوفرنسا في لعب دور قيادي في الأزمة الأكرانية تمهيداً للعب دور أكبر في أروبا يقلص من النفوذ الأمريكي، ورغم القوة الاقتصادية التي تتمتع بها الدولتان إلا أن العملة الأوربية اليورو لم تحتل مكانة الدولار الذي يهيمن على السياسة النقدية في العالم، وأمام فرنسا وألمانيا قضايا اقتصادية شائكة تتمثل في الانهيار الاقتصادي في اليونان وأسبانيا والبرتغال وعدة دول أوروبية مما يهدد النفوذ الاقتصادي الألماني والفرنسي بطريقة مباشرة!! وبالتالي يصبح اليورو أثراً بعد عين!! بريطانيا رغم أنها دولة أوروبية لكنها لا تنظر إلى أوروبا عبر المانش الذي يمكن عبوره سباحة ولكنها تنظر غرباً عبر الأطلسي إلى حليفها الأساسي أمريكا، لذلك نجد أن بريطانيا لم تتخذ العملة الأوربية عملة لها، ولم تشترك كعضو في الاتحاد الأوروبي!! ومن المعروف أن المانياوفرنسا وبولندا هي الدول التي كان لها الأثر الأكبر في تصعيد الأحداث في كييف، وقد كان الاتصال بين هذه الدول والمتمردين الانقلابيين في ميدان الاستقلال في كييف مباشراً، وحتى الاتفاق الذي أبرم في الحادي والعشرين من فبراير الماضي وبموجبه كان يمكن للأحداث ألا تتطور على أقل تقدير إلا أن المانياوفرنسا وبولندا اشترطت موافقة الانقلابيين في الميدان الأمر الذي دفع بروسيا من الانسحاب!!. وتوالت بعد ذلك زيارات علنية من اعضاء في الكونغرس الأمريكي وسرية من وكالة الاستخبارات الأمريكية، هذا إضافة إلى تحركات حلف الناتو على الحدود الأكرانية بحجة أن روسيا حشدت قواتها على الحدود الاكرانية الأمر الذي نفته دول أوربية غربية..!! وفي اعتقادي ان مريكا لن تسمح لا لألمانيا أو فرنسا بتولي زمام الأمر في أوربا، أمريكا هي من سمح لالمانيا واليابان بالنهوض اقتصادياً بعد الحرب العالمية الثانية التي خرجت منها المانيا واليابان مدمرتين كلياً، ولكنها أي أمريكا لن تسمح لأي من الدولتين بأية مساحة للقيادة مهما صغرت هذه المساحة، فالصراع أساساً صراع نفوذ تريد أمريكا الانفراد به وهذا قد يتطور بتطور الأحداث في اكرانيا!! كما أن الناتو قد مر بدروس قاسية في افغانستانوالعراق الأمر الذي يجعله يفكر مرتين في الدخول في نزاع مع روسيا النووية والأكثر قوة وتقدماً من طالبانأفغانستان. ومسألة أخرى في غاية الأهمية وهي الدافع للقتال والحرب، واذا كان دافع الشعب الروسي الدفاع عن أرضه وعرضه، فما هو دافع الجندي الألماني او الهولندي او الإيطالي أو حتى الأمريكي من الحرب ضد روسيا، وهذا هو الدافع الأساسي الذي يعتمد عليه المواطن الروسي ولا يملكه جندي الناتو الذي يحارب من اجل تحقيق أطماع الآخرين فهو لا يدافع عن أرض سلبت منه أو عرض تم انتهاكه ولعل هذا هو السبب الرئيس في هزيمة الناتو في الحروب التي حارب فيها بالوكالة عن أمريكا!! امريكا تنتهج ثقافة غريبة وهي ثقافة الخوف وتلك الثقافة صاحبت امريكا منذ نشأتها، وقد بنيت السياسة الأمريكية على هذه الثقافة وفي الذاكرة الامريكية تلك المجازر التي اقترفها الأوائل في حق السكان الأصليين، لذلك أصبحت هذه الثقافة متوارثة، وعليها بنيت ما يعرف بالحرب الاستباقية، فهي تحتل وتضرب وتبيد الملايين في أفغانستانوالعراق بناءً على ثقافة الخوف هذه التي جعلتهم يعتقدون ان افغانستان الموغلة في تخلفها خطراً على الأمن الأمريكي، كل هذا يتم تحت غطاء محاربة الإرهاب ومن الذي صنع القاعدة؟! إنها ذات أمريكا!! وتحت تأثير ثقافة الخوف هذه يرهبون أوربا بحديث ساذج وهو أن روسيا إن احتلت اكرانيا فإن زحفها لن يتوقف إلا عند بحر المانش هكذا تشيع وسائل الإعلام الغربية التي تؤثر على الرأي العام الأوربي وتقوده كقطيع من الماشية!! ولو كانت لروسيا نوايا كهذه لاستغلتها في الحرب العالمية الثانية حين كان الاتحاد السوفيتي هو الأقوى على الإطلاق في نهاية الحرب، وحين كان الجيش الأحمر على مشارف برلين كانت قوات الحلفاء على بعد ستمائة كيلو متر منها، ولو أرادت روسيا في ذلك الحين احتلال كل أوربا لما استطاع أحد منعها ولكن هدف روسيا وهي تقود الاتحاد السوفيتي كان السلام واحترام سيادة الآخرين!! إن الأزمة الأكرانية في اعتقادي ما هي إلا صراع نفوذ بين المانياوفرنسا من جهة، وأمريكا من جهة أخرى أكثر منها صراع بين روسيا وأكرانيا، فروسيا لم تحشد قواتها على الحدود الأكرانية بينما جيوش الناتو تفعل ذلك، وتدخل الناتو لتهميش الدور الألماني والفرنسي في الأزمة، وبهذا تبدأ أمريكا دورها المعروف، فهي تدرك ان تأثيرها ينصب في إدارة الأزمة وليس حلها، وهذا هو أسلوبها تجاه الأزمات في الساحة السياسية العالمية، وهو أسلوب يتناقض تماماً مع السياسة الروسية التي ترمي إلى حل الأزمات ليعيش العالم في سلام، وبقاء الأزمة يعني نمو التوتر وزرع الكراهية بين الشعوب والأمم!!