{ القاضي جلال على لطفي.. عام 1956م في جوبا.. يحاكم وكيل إحدى الوزارات هناك بتهمة الاختلاس. { والرجل يستقبل المحاكمة هادئًا مبتسمًا فقد كان يعلم ومحاموه زروق والمحجوب أن العقوبة الأقصى هي السجن لأعوام. { بينما المبلغ المختلس كان لا يحصل على معشاره وإن ظل يعمل لمائة عام. { .. والقاضي كان يرى ما يراه المتهم والمحامون. { .. وفي يوم النطق بالحكم القاضي جلال علي لطفي بجسمه الضخم يطل من فوق المنصة.. وينظر إلى المتهم وزروق عن يمينه والمحجوب عن يساره ثم ينطق الحكم .. الإعدام شنقًا حتى الموت. { والحاجب يصيح - محكمة { .. والجميع مذهولون... { والمحامون يطيرون إلى رئيس القضاء «أبورنات» في الخرطوم يصرخون أمام مكتبه بأنه لا يوجد قانون في الأرض يحاكم على الاختلاس بالإعدام. { .. وأبورنات يرفع الهاتف وأغرب وأقصر محادثة تدور أبو رنات يسأل القاضي جلال قال: اسمع.. اللي في بالي .. في بالك؟ قال جلال: نعم { وانتهت المحادثة { ورئيس القضاة يؤجل النظر في الاستئناف لشهور.. وشهور.. { .. والسودان كله يتسامع بالقصة { وفي الشهور هذه لم يبقَ وجه من وجوه المجتمع السياسي أو التجاري إلا جاء يعرض وساطته لإعادة المبلغ المختلَس بكامله.. ثم عقوبة على المتهم من بعدها.. { وقتها لم يبقَ مختلس في جهات السودان إلا جاء يحمل ما اختلسه وهو يرجو الدولة أن تتكرم بقبول ما اختلسه - وأن تحاكمه.. مع اللطف به. { .. كان هذا هو ما أراده ابورنات من هنا.. وجلال من هناك.. { .. المجتمع هو الذي يحمي نفسه ولا ينتظر حماية الدولة { .. أيامها كانت خطة المخابرات الأمريكية لاختلاس بترول العالم تعمل.. وتبدأ بهدم الأسلوب هذا في المجتمعات. «2» { بعدها منتصف الستينيات لما كانت خطة أمريكا لسرقة بترول العالم تقطع شوطًا بعيدًا كان زروق قد توفي والمحجوب رئيسًا للوزراء و حماد توفيق وميرغني حمزة وسانتو دينق ونقد الله وعلي عبد الرحمن و... و... هم الحكومة { كلهم مخلص { وكلهم يسعى جاهداً لإطلاق عربة الوطن.. { لكن إطاراتها كانت قد سُرقت.. الخطة الأمريكية من هنا.. والصراع الشيوعي من هناك { .. و.. { والمجتمع في كل مكان يرد بعنف حين يلمح وجه المخطَّط هذا { وعام 1965 ثورة إندونيسيا كانت ثورة مسبوقة.. قبلها ثورات.. لكن إندونيسيا كانت محطة ما يأتي بعدها لا يشبه ما كان قبلها. { .. الاتحاد السوفيتي كان يشعر أن أمريكا تبتلع إيران وتعيد الشاه لأنها تريد النفط. { والصين تريد النفط { وفي جاكارتا راديوهات الترانسستور الذي كان اكتشافًا جديدًا كانت تصيح بالأغنيات من كل محلات السوق المزدحم { .. والمحطة الإذاعية الرئيسية تقطع برامجها فجأة لتذيع أغنية اسمها الطائر الأزرق الجميل { .. لتصبح الأغنية هذه هي أشهر بيان رقم «1» في التاريخ. { الأغنية كانت هي الإشارة المتفق عليها بين خلايا الحزب الشيوعي الصيني هناك للانطلاق { والمذبحة انطلقت!! { وأحد أشهر وأبرع قادة الجيش هناك «عبد الحارث ناساتون» طفلته ذات الأعوام الثلاثة تنقذ إندونيسيا من الشيوعية - الطفلة كانت في منتصف الليل تصرخ من شيء في معدتها { والأب يذهب بها إلى المستشفى { وعند عودته وبعيون القائد المتمرِّس يلاحظ أن شيئًا غير طبيعي يجري حول منزله { .. وعبد الحارث يروغ - كان الانقلاب الشيوعي يبدأ باغتيال عدد من الشخصيات { وحين تعلم غرفة القيادة أن ناساتون قد أفلت يصرخ أحدهم صرخة أصبحت إندونيسيا كلها تردِّدها الرجل صرخ : يا إلهي .. لقد أفلتوا ناساتون { كان يعلم ما يعني هذا { وبالفعل: عبد الحارث يقود المقاومة التي جعلت طلاب جامعة إندونيسيا يشنقون الشيوعيين من زملائهم على الأشجار { والصور تحملها مجلة التايم { .. لم يكن الفكر لا الشيوعي ولا غيره هو ما يقود المعركة { ما يقود كان هو الصراع على الطاقة - على النفط بالذات { كان هذا في آسيا التي انفجر نفطها مبكراً { والآن.. ومنذ عام 2004م وتقرير باتريك يأتي دور نفط إفريقيا { ودور السودان { ولما كانت المعركة هذه تدور هناك كان صبي في الرابعة عشرة يلعب جناحًا أيسر لفريق في منطقة العشرة اسمه علي عثمان محمد طه.. وكان آخر في مثل عمره في حوش بانقا يعمل عامل بناء ويسقط يومًا ويكسر سنه واسمه عمر حسن أحمد البشير { وكان صبي في مثل سنهم في منطقة «جقلي» في الجنوب اسمه جون قرنق و... { وفي كسلا كان شاب في الثلاثين يكمل دراسته في باريس اسمه حسن عبدالله الترابي { وكل شيء يستعد للإمساك بخناق كل شيء { وما يمد ذراعًا طويلة من إندونيسيا وحتى السودان كان هو : أن الصين التي تفقد أضخم حزب شيوعي «صيني» في آسيا عام 1965 بضربة الحزب الإندونيسي وبمساعدة السوفيت الصين ترد التحية { وتجعل موسكو تفقد أقوى حزب شيوعي في إفريقيا { الحزب الشيوعي السوداني بضربة هاشم العطا 1971م { لكن الصين لعلها لم تكن تعلم أنها تقدِّم السودان للمخطَّط البترولي الأمريكي كان هذا أول السبعينيات.. { ليضحك كل شيء حين تكون الصين هي من يدير بترول السودان الآن..