معتز محجوب: «أريد الصمت كي أحيا ** ولكن الذي ألقاه ينطقني» «ما في ولا داية واحدة» بتلك العبارة صدمونا أهالي محلية باو ونحن نستمتع بكرمهم وزادهم «صحن ضخم من العصيدة» عندما كنت برفقة وفد برلماني رفيع زائر للمحلية للوقوف على أوضاعها، ورغم ضيق ذات يدهم إلا أنهم أصروا على إكرامنا بكرم لم أجد له مثيلاً، ولم يركزوا كثيراً على الشكوى بقدر ما ركزوا على إكرامنا، ولعل مصدر اندهاشي ومن معي، هو انعدام أية خدمات بالمنطقة «مياه، كهرباء، صحة»، بينما ينعم كل السودان وبعض مدن دولة مجاورة بكهرباء سدهم فهل هذا انعدام في الرؤية والتخطيط أم ...؟! لن أرد على تساؤلي سيدي القارئ بل سأنقل لك صورة قلمية وصورة حقيقية لما رأيت هناك دون تزييف بأرض الكجور. أسطورة مقاتل: دخلنا مدينة الشهيد أفندي بمحلية باو برفقة الوفد البرلماني والمعتمد، ونحن نمني أنفسنا برؤية مدينة، إلا أننا رأينا مجموعة من القطاطي المتفرقة أشك أنها قد تحميهم عند بداية الخريف الحقيقي في هذه الأرجاء، ولأن اسم الشهيد منتشر كثيراً في تسمية مدن جديدة عديدة، إلا أنني فوجئت عند حديث المعتمد عن الشهيد الذي سميت المدينة باسمه، فقد تبين لي أنه بطل من أبطال بلادي المجهولين فهو مثل عبد الفضيل الماظ وعلي عبد اللطيف وود حبوبة وعثمان دقنة الذين ناضلوا ضد الاستعمار، وشهيدنا أفندي ناضل ضد البريطانيين والإيطاليين، واستشهد بعد معارك شرسة، ضرب على إثرها بصاروخ لا يزال أثره موجوداً بالجبل محل استشهاده، وللأسف لا يعرف عنه مدونو التاريخ السوداني شيئاً. الكجور: وقبل أن أدلف في توصيف الأوضاع السيئة التي رأيتها بتلك المنطقة، لا بد من سرد خلفية تاريخية بسيطة عن أرض الأنقسنا، وكيف تطورت بقليل من اجتهاد بعض المتصوفة، وكيف تحول إنسان المنطقة من رجل بدائي «عاري،لا ديني» لآخر متحضر، إلا أن الحرب وانعدام الوعي والاستهداف والمؤامرة قد تقوده للرجوع لعهد اللاوعي ومرحلة اللا دين. ولعل مرحلة اللا دين التي أتحدث عنها كانت قائمة إبان حكم الرئيس نميري حيث كان الكثيرون من أبناء الأنقسنا بسبب الجهل، تابعين لسيطرة شيوخ الكجور في المنطقة، وقد ارتبطت البشرية في الحضارات القديمة وحتى الآن، بشخصية العراف أو الكاهن أو الساحر أو «الكجور»، ويحتل في المجتمعات التي تدين بالمعتقدات الوثنية أو القوى الخفية مكانة رفيعة، لمعتقد الأهالي البسيطين أن للكجور قدرات خارقة تمكنه من أن يكون الوسيط أو الصلة بين الإنسان العادي والقوى الخفية التي تعتقد تلك المجتمعات في تأثيرها على مسار حياة الإنسان بالخير والشر. وأسهم المستعمر بحسب الباحث تاج السر عثمان في مقال له بإحدى الدوريات في تخلف وعزلة مناطق الأنقسنا. بيت الشمس: بينما أثرت طبيعة المنطقة الجبلية على معتقداتهم مثل الجبال التي يقدسونها والتي شكلت لهم الحماية، كما نلاحظ تقديس إنسان الأنقسنا في زمن سابق للشمس التي أنشأوا لها بيتاً «بيت الشمس» الذي يوجد بداخله كجور تتجمع عنده فوائض الغذاء، ونلاحظ قدسية هذه الدار«بيت الشمس» التي لا يدخلونها إلا حافيي الأقدام والرؤوس. الزنبارة و«الساي ساك»: ونجد أن للأنقسنا طقوساً وفنوناً وعادات مرتبطة بالأمطار والماشية، مثل عادة «الزنبارة» التي تتم مع بداية الأمطار وبداية نظافة الأراضي من الحشائش لتكون جاهزة للزراعة، وعادةً «الربابة الكبيرة» التي تتم عند حلول موسم الحصاد. واحتفال «ساي ساك» الذي هو احتفال خاص بالأبقار والأغنام ويتم في الفترة التي ترجع فيها الماشية من المراعي البعيدة قبل موسم الأمطار لتوضع في الزرائب. معسكر أم مدرسة: عفواً سادتي القراء.. كنت أحتاج لأن أدخلكم معي في العالم الذي خرج منه إنسان الأنقسنا من رحاب اللادين والجهل والعري لرحاب الدين الإسلامي والتعليم، والذي لو اجتهدت فيه الحكومة قليلاً لما وجد التمرد له موطئ قدم. ابتدأت زيارتنا كما أسلفت بمدينة الشهيد أفندي وتم إدخالنا لمنطقة أشبه بالمعسكر القديم تنتشر فيه الأحجار وبعض القطاطي، وفي منتصفها سارية علم للسودان يقف منتصباً رغم الفراغ والدمار المحيط، وفاجأنا معتمد باو عندما أخبرنا أن المكان الذي جلسنا فيه هي مدرسة المدينة، وتقف ليس بعيداً منها بضع من النسوة والأطفال يحملون «باقات» المياه على رؤوسهم، ويواصل المعتمد إدهاشنا بقوله إن كل المدينة بها بئر شرب واحدة فقط لسكان يبلغ تعدادهم 5 آلاف نسمة «1500» أسرة، ويعترف المعتمد بحسرة «الكرة في ملعبنا ولكننا لم نستطع تقديم الخدمات» ويؤكد وجود الخطط والتصورات للتنمية ولكن..؟ ويشير الى أن محليته تتكون من ثلاث وحدات إدارية ولم يتم تأهيل مباني محليته منذ عهد الرئيس نميري. موت بالجملة: ويوصف الشيخ علي نور وهو من رموز المنطقة، محلية باو قبل الأحداث ويشير الى أن عدد المدارس بها كان يفوق ال«84» مدرسة، فضلاً عن الخدمات والمستشفيات، بينما يقر بأن مدينة الشهيد أفندي هي الأفضل استقراراً، أما الخدمات فيعطيها «صفر» كبير كعلامة، ويكشف عن تسبب مرض التهاب الكبد الفيروسي في القضاء على أعداد كبيرة من السكان منذ بدء الأحداث ويقول «كنا ندفن في اليوم الواحد خمسة من السكان». ويمضي شيخ جلال وهو من الأهالي، في ذات الحديث السابق ويقول إنه كان يتمنى لو كانت المدرسة تعمل وليست في عطلة، حتى يشاهد النواب إلى أي حد تمتلئ الفصول «كرانك» بالطلبة، ويوضح أن الفصل الواحد يتجاوز عدد تلاميذه ال«100» تلميذ، إضافة لانعدام الكتاب المدرسي، ويتحسر جلال على مناطقهم السابقة في الجبال لتوفر الخدمات بها بينما تنعدم أقل الخدمات من كهرباء ومياه وصحة، ويقول إن الكهرباء تمر فوق رؤوسنا للرنك. أما مدير المدرسة صديق محمد فيقول إن عدد الطلاب بالمدرسة يبلغ 450 تلميذاً وعدد المقاعد للجلوس 50 مقعداً فقط، بينما يجلس 400 تلميذ منهم على الأرض. تجنيد قسري: بدوره يقول وكيل ناظر الأنقسنا الناظر النور جمعة سالم إن مجتمع باو يحتاج لعناية من المسؤولين، ويوكد على أن إنسان باو مسالم إلا أن الغدر الذي حدث له باندلاع الأحداث علمه الغلظة، ويشير الى أنه من أولى أولوياتهم كإدارة أهلية مخاطبة أبنائهم المتفلتين للرجوع للسلام، ويكشف عن قيام والي الولاية السابق المتمرد مالك عقار بتجنيد أبناء الأنقسنا في جيشه، بينما ذهب من تبقى من ابنائهم الصغار للعمل بالدرداقات في المدن، ويؤكد النور انهم لا يحتاجون الى كماليات، ويقول: ما دايرين موية بالمواسير»، بل الأولويات فقط، ويطالب أن يتم تقييمهم ك"بني آدميين" على حد قوله، ويؤكد أن آخر من قدم تنمية لمنطقتهم كان الرئيس الأسبق المرحوم جعفر نميري. حرب دينية: ويؤكد المدير التنفيذي للمحلية أن مالك عقار جند طلاب الثانويات ضمن جيشه وكان يقوم سابقا بنقلهم للكرمك، ويشير الى أن كل البنيات التعليمية بالمحلية قد انهارت، إضافة لمكاتب ومؤسسات الدولة بالمحلية، ويدلل على ذلك بنفسه بقوله إنه يذهب للقاء وقضاء حوائج المواطنين عبر تأجير عربة تاكسي، ويتهم المتمردين بسرقة 5 عربات كانت تتبع للمحلية، ويصف الحرب المندلعة بالولاية أنها حرب دينية، ويتهم المتمردين والجهات التي تقف وراءهم بالخارج بمحاولة إرجاع الأنقسنا للكجور، ويقول «دا من أهداف الجهات الفوق دايرين اللادينيين لسهولة التحكم فيهم». بدوره يصف عضو البرلمان وابن الولاية محمد صالح شيخ الدين الأوضاع بالمحلية بالمأساوية خاصة في التعليم، ويدعو حكومة الولاية لدعم المحلية مهما كانت الضائقة التي كانت تمر بها، ويتعهد بإيصال ما رأى من مأساة للمركز، ويرفض شيخ الدين أن يوصف مدينة الشهيد أفندي بالمدينة ويقول «دي معسكر نازحين». سلام بالوكالة: أما عضو البرلمان والقيادي بالولاية بشير خالد الفكي فيقول إنهم في السابق عندما كانوا يحملون القوافل للأنقسنا كان يتم تصنيفهم وتوصيفهم بأوصاف ليست جيدة، ويؤكد أن التنمية الحقيقية لن تتم إلا عبر السلام، ويرسل للمركز رسالة قوية بقوله «ما دايرين زول يعمل سلام في المنطقة بالإنابة عن إنسان النيل الأزرق»، ويدافع بشير عن إنسان الأنقسنا وينفي عنه تهمة التمرد، ويشدد على ضرورة تحقيق السلام الاجتماعي في المنطقة، ويعبر عن استغرابه للعطش الذي يصيب المنطقة على الرغم من قرب الخزان «1.5» كلم من باو، وتعهد أن يسعى برفقة النواب لتوصيل الخدمات للمنطقة. «أنا حزين» بهذه الجملة ابتدر رئيس الوفد البرلماني لباو ورئيس كتلة نواب الخرطوم بالبرلمان الشيخ عمر عبد الرحيم الشيخ بدرحديثه، ويقول إنه لم يكن يتوقع أن يرى مثل ما رأى لمحلية على مرمى حجر من عاصمة الولاية، ويؤكد عمر مساندته بالبرلمان لزيادة نصيب الولايات من الموارد القومية، وتعهد أن يسعوا كبرلمان لتوفير الخدمات للمنطقة، وناشد الحكومة الاتحادية بالالتفات لباو باعتبارها من أكثر المناطق تأثرا بالحرب. ولم يكن حال منطقة العقاقير بمحلية باو بأحسن حالاً من مدينة الشهيد أفندي وإنما أسوأ، فمدرسة المنطقة الوحيدة تبنى في العام أربع مرات بسبب بنائها بالمواد المحلية «قش» حسب استطاعتهم والذي لا يحتمل الأمطار، وتتطابق مطالب المنطقة مع مطالب أهالي الشهيد أفندي "المياه، الصحة، التعليم»، ويضيفون عليها ردمية للطريق،لانقطاع المنطقة تماماً عن المدينة بمقدم الخريف، ويكشفون عن انعدام أية وحدة صحية في المنطقة وحتى الداية القانونية ينعدم وجودها. ويخاطب النائب البرلماني بشير خالد الأهالي بالمنطقة ويؤكد على أن الحرب في الولاية ليست حرباً عنصرية كما يحاول البعض أن يصفها، مؤكداً على أن الأنقسنا والعرب في الولاية بخندق واحد. حسناً.. خرجنا من باو وفي القلب أشياء لا تقال عن الحسرة، والتي تنعدم فيها أبسط أنواع الخدمات، وفي ذهني صور لولايات أخرى تعاني من ترهلات وتخمة في التنمية والخدمات، وفي ذهني أيضاً تبرعات بعض مسؤولينا للتنمية في مناطق بدول أخرى. فهل يستقيم الأمر؟!.
