مواصلة لما تطرقنا له أمس، بشأن رؤية الأستاذ الجليل والأخ النبيل بروفيسور التجاني عبدالقادر، حول ظاهرة الفساد الفاضحة والصادمة والتي صارت ملازمة للسلطة الحاكمة الراهنة والقائمة على سدة مقاليد الحكم، بهيمنة وسيطرة منفردة من النخبة الممثلة للحركة الإسلامية السودانية الحديثة والمعاصرة، منذ نجاحها في الاستيلاء عليها بانقلاب ثوري مدني وعسكري قامت به في العام 1989م، وذلك على النحو الذي أورده بروفيسور التجاني في كتابه الصادر بالخرطوم عام 2008م، مشتملاً على مجموعة مقالات نقدية عميقة وساخنة لهذه التجربة في جوانبها السالبة والمحبطة والمهددة لها والمثيرة للسخط عليها والألم والأسف والفجيعة فيها، نشير إلى ما ورد في هذا الكتاب وهذه المقالات التي أثارت ردود فعل صاخبة، حول الظاهرة المتمثلة في الذهنية التجارية والعناصر الرأسمالية التي ذكر بروفيسور التجاني، أنها أضحت تنشط وتتمدد حتى كادت تبتلع التنظيم الإسلامي لحركة النخبة السودانية الحديثة والمعاصرة، والتي لم تنضم إليه أصلاً إلاّ فراراً من الرأسمالية المتوحشة. ويضيف بروفيسور التجاني أنه لما كان الشيء بالشيء يذكر، فقد كتب صديقنا عبدالمحمود الكرنكي الصحفي والملحق الإعلامي السابق بلندن ذات مرّة في أوائل الثمانينات، مقالاً لصحيفة الأيام تعرض فيه بالنقد لممارسات بعض «أخواننا» العاملين في بنك فيصل الإسلامي في ذلك الحين. وكانت رئاسة الصحيفة قد أوكلت آنذاك إبان ما عرف بالمصالحة الوطنية فيها إلى القيادي الإسلامي يس عمر الإمام - يرحمه الله -. وقبل أن ينشر الموضوع وصل بصورة ما إلى د. الترابي في تلك الفترة فلم يعجبه، وطلب من الكرنكي أن يعرض عن نشره، على أن يبلغ فحواه إلى «أخوانه» في البنك على سبيل النصيحة، لكن الكرنكي قال له: لن أنشر الموضوع من جانبي احتراماً لرأيك، لكني لن أتقدم إليهم بنصيحة، ثم يتقدم إليهم الأخ «فلان» بنصيحة أخرى مغايرة، فبأي النصيحتين سيأخذون في هذه الحال؟.. ويشير بروفيسور التجاني إلى أن «فلان» الذي ذكره الكرنكي آنذاك كان من التجار الكبار والمستثمرين الذين يحبهم مدراء البنوك، ويطيلون الجلوس معهم في ذلك الحين، ويولونهم اهتماماً لا يولون معشاره لأقوال الصحف والصحفيين، وخاصة الفقراء منهم، وقد أحس الكرنكي بذلك، وأدرك أولاً أن بعض «أخواننا» قد داخلهم شيء ما أفقدهم القدرة على تذوق النصيحة الناعمة والموعظة الحسنة، كما أدرك ثانياً أن العلاقة بين التنظيم والسوق، و التي يمثل فلان همزة الوصل فيها قد بلغت منه القوة مبلغاً لا تجدى معه المواعظ الأخوية، والنقد السري. ويضيف بروفيسور التجاني إن السيد «فلان» المشار إليه ليس هو التاجر المجرد، وإنما هو تاجر «إسلامي»، وهو حينما يذهب إلى موظفي البنك «الإسلامي»، أو إلى العاملين في مرافق الدولة، لا يذهب كما يذهب عامة التجار، وإنما يذهب ومعه هالة التنظيم ليتوصل إلى مصالحه الخاصة، وهذا هو مربط الفرس وبيت القصيد الذي يتمثل في أن المصالح الخاصة تتخذ لها غطاء من التنظيم. ويضيف بروفيسور التجاني أن هذا هو محك الإشكال وموضع النظر في هذا المقال، والسؤال هنا هو كيف بدأت هذه العلاقة بين التنظيم والسوق؟ وفي أي اتجاه تطورت؟! وإلى أي شيء يتوقع لها أن تقودنا؟ وأظن أن بداية هذه العلاقة تعود إلى فكرتين بسيطتين إحداهما صحيحة والأخرى خاطئة، وهذا هو ما سنعرض له غداً في مواصلة للإشارة إلى جذور ظاهرة الفساد، في التجربة الراهنة للسلطة القائمة بهيمنة وسيطرة منفردة للنخبة الممثلة للحركة الإسلامية للنخبة السودانية الحديثة والمعاصرة.