بعد أيام قلائل فتح باب القبول إلى المدارس، قدمنا إلى كتاب الأبيض وقبلنا فيه بالفعل، قبل الذهاب فصل لنا العم دفع اللَّه القوس ترزي بجوار الدكان جلابيتين لكل واحد ثم شنطتين من الدمورية، ثم ذهبنا في اليوم المحدد إلى المدرسة، فرحين مستبشرين بمستقبل واعد، وعندما ضرب الجرس وقفنا في طابور الصباح وبدأ الذين في الصفوف الكبرى بالإنشاد نشيد الصباح بصوت رخيم يفرح القلب، بدأنا والحمد للَّه نسير بخطى ثابتة ورغبة أكيدة إلى أن وصلنا الصف الرابع، الحمد للَّه انتهت الدراسة في الفصول الأربعة وكانت النتيجة النهائية مشرفة جداً، حملنا الشهادات تاركين خلفنا أحلى الذكريات. قبلنا في المدرسة الأهلية الوسطى، كانت مدرسة متواضعة جداً عبارة عن منزل عادي من الطين والطوب المدخل واحد يقفل بحجر، شمال المدخل أربعة فصول يتوسطهم مكتب الناظر، يمين المدخل مكاتب المدرسين، وفي مؤخرة المدرسة مصطبة كبيرة تستغل كمسرح. مرت السنة الأولى والثانية بشكل سلس ولكن حصلت المشكلة في الفصل الثالث، في هذه السنة نقل من العاصمة إلى المدرسة الأهلية الأبيض أستاذ يدعى أنور، تم اختياره ليدرسنا اللغة الإنجليزية، دخل إلينا في الفصل، شكلاً يبدو شماسي، وأخيراً من ناحية الأداء اتضح أنه سادي، في أول مقابلة لنا وضع لنا إملاء بالإنجليزي واستمر يومياً يعطينا إملاء حتى نهاية الأسبوع، وفي نهاية الأسبوع يتم التصحيح كالآتي: الرقم سي (C) معناه مهمل العقاب (15) جلدة. الرقم إس (S) معناه غبي العقاب (10) جلدات. الرقم دي (D) معناه قذر العقاب (5) جلدات. الرقم إف (F) معناه ساقط العقاب (20) جلدة. تجمع الأرقام خلال الأسبوع كان أكثرنا ذكاء يخرج في نهاية الأسبوع ب (05، 06) جلدة. تحملنا هذا المجرم لمدة أسبوع كامل ظناً منا أن يرعوي أو يتراجع، وعندما أصر على طريقته السادية تجمعنا كل الفصل ولم يتخلف أحد، وحملنا معنا المصحف الشريف، وتوجهنا جميعاً خارج منطقة الأبيض في طريق مدرسة خور طقت بالقرب من المدرسة وجدنا شجرة تبلدي كبيرة جلسنا تحتها وبدأنا نتناقش وبعد نقاش مستفيض استقر الرأي، قررنا الإضراب عن المدرسة ليوم واحد، وحلفنا على المصحف جميعنا على ألا نتخاذل، وبالفعل نفذنا الإضراب بنسبة (100%). بعد أن انتهى الإضراب رجعنا إلى المدرسة، استقبلنا بغضب شديد وبالذات من الناظر، الذي تطاير الشرر من عينيه صرخ منادياً شيخ الدين (ضابط المدرسة) طويل القامة مفتول العضلات أسود اللون ليس في قلبه ذرة من الرأفة، ثم كرر الناظر قوله لشيخ الدين عشرة جلدات بقسوة لكل واحد، وأيضاً قال (دق القراف خلي الجمل يخاف) لم أفهم المقصود من هذه الجملة، ولكن قيل لنا أضرب الصغار أولاً لكي يخاف الكبار، وفعلاً أتى أربعة من السنة الرابعة وشدونا أنا والمرحوم حسن أبو سنينة، فقد كنا أصغر من بالفصل حجماً، وبدأ الضرب المبرح وعندما أنزلونا أسرعت إلى الباب الرئيسي ورفعت الحجر رغم ثقله وتوجهت مسرعاً إلى الناظر، خاف الناظر وأسرع إلى مكتبه قافلاً إياه على نفسه، رميت الحجر على مكتبه وبدأت أردد هل هذه مدرسة تعنى بتطوير العقول أم بسلخ الأجساد، الكل واجم، تدخل شيخ حسن أستاذ الدين واللغة العربية قائلاً بلطف إذهب إلى المنزل وغير الجلابية لأنها تمزقت من شدة الضرب، وفعلاً ذهبت وغيرت الجلباب ورجعت ثانية ودخلت الفصل دون اعتراض من أحد، وفي الصباح الباكر أنزلت خطاباً في جريدة الحائط، مضمونه السيد الناظر والسادة الأساتذة الأجلاء لقد صرنا في مرحلة نستطيع فيها التمييز بين الخير والشر ببساطة، فلماذا تتعاملوا مع أجسادنا قبل عقولنا، أجيبونا رحمكم اللَّه، استدعاني الناظر، فذهبت إليه وكان معه الشيخ حسن والأستاذ عبد القادر المرضي وبعد حديث مطول نصحوني بأن أعتذر للناظر، رفضت رفضاً باتاً فقرر الناظر فصلي من المدرسة، استلمت خطاب الفصل وذهبت للوالد ورويت له كل الذي حصل وأخبرته بأني لا أنوي الرجوع، ووافق الوالد على مضض، وفي الصباح الباكر ذهبت معه إلى مدرسة وليام نسيم وهو قبطي مصري أخبره الوالد بكل الذي حصل، رغم ذلك قبلني بالمدرسة بمصاريف كاملة، لأنها مدرسة خاصة، انتظمت في المدرسة إذ كان الهدوء والعقلانية ديدنها ومكثت فيها بارتياح حتى موعد امتحان الشهادة وفعلاً تحصلت على الشهادة بنجاح وبعدها ركبت الموجة القبطية وقد كانت موجة هادئة، وبالفعل قبلت بمدرسة الأقباط الثانوية بالخرطوم، حزمت متاعي وتوكلت على اللَّه، ذهب معي الوالد إلى السكة حديد وفي المحطة أعطاني عصاة، قال ناس الخرطوم صعاليك إذا تعدى عليك أحدهم أضرب في المليان ولا تخاف أنا المسؤول، وعندما وصلت إلى الخرطوم قابلني ابن عمي محمد الأمين حامد، ذهبنا معاً إلى أم درمان في منزله العامر حيث كانت إقامتي، أمضيت الليلة في أحلام وردية تشوقاً إلى المدرسة، وعند شروق الشمس كنت جاهزاً للذهاب، ذهب معي ابن عمي إلى المدرسة، بعد أن دخلت الفصل أرشدني إلى طريق الرجوع إلى المنزل، وكنت منكمشاً قليلاً إذ كان الأغلبية من الطلبة من ذوي السحنة البيضاء وذوي الأسماء التي لم تألفها الأذن مثل بهيج، حنا، مرقس، فريد، جون وجورج... إلخ. وتاركاً خلفي أسماء مثل أبكر، معاذ، كوكو.