«أنت يا مايو بطاقتنا التي ضاعت سنيناً» «وكنت يا مايو الخلاص وفي حكاياتنا مايو» «وعشان نبني اشتراكية ونرفع راية هم خلوها فوق السارية متكية» هذه وغيرها هي أغنيات من أشعار مايو الحمراء، من ذاك العهد الذي عرف بالمواجهات والصراعات الدموية بين مفجري الثورة التي تمر ذكراها هذه الأيام ومناهضيها، انقلب العسكر على أنفسهم وانتصر فريق على آخر، ضُرب اليسار القابض ضربة قاضية وانقلب السحر على الساحر، انطفأت الشمعة الحمراء لتدخل مايو بمن تبقى في قيادة ثورتها مرحلة جديدة من عمرها قوامها الوسطية والقومية وما عرف بتحالف قوى الشعب العاملة، مرحلتها تلك شهدت هي الأخرى عدة انقلابات وحركات دموية مسلحة، منها انقلاب المقدم حسن حسين وحركة يوليو 1976م المسلحة والتي أُطلق عليها اسم «المرتزقة»، لتدخل مايو من بعد ذلك مرحلة المصالحة الوطنية والتي لم تصمد هي الأخرى كثيراً لانعدام الثقة بين الجانبين، وانتهى جوهر ومضمون المصالحة. وفي أواخر عمرها انتهت مايو بالحقبة اليمينية التي تم فيها تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية، والتقت مع الإسلاميين الذين انخرطوا في مؤسسات مايو بدءاً من القصر الجمهوري والاتحاد الاشتراكي والبرلمان، ولكن انقلب جعفر نميري عليهم وزج بهم في السجون وهي المرحلة التي تلتها الانتفاضة الشعبية التي اقتلعت حكم مايو في العام 1985م.. بين يدي الذكرى جلسنا إلى اللواء «م» عمر محكر السكرتير الخاص لرئيس مجلس قيادة ثورة مايو والذي صار لاحقاً مديراً لمكتبه في رئاسة الجمهورية.. الرجل مشكوراً خصنا بإفادات ثرة حول مايو قبل أن تكون فكرة إلى أن صارت ثورة وعن كل المحطات التي مرت بها في حوار ننشره على حلقات وكان حضوراً فيه القطب المايوي مصطفى مجذوب حيث بدأنا هذه الحلقة بالسؤال: كيف كان التخطيط والتدبير لمايو؟ أذكر أننا كما في جبيت ووقتها كان العقيد الركن جعفر محمد نميري قائداً لمدرسة المشاه بجبيت، وكان ذلك في يناير من العام 1969م وقبله كان القائد هو العميد مزمل سليمان غندور، فذهب الأخير إلى أكاديمية ناصر العسكرية وصار وقتها نميري هو قائد مدرسة المشاه، وأذكر أنه في شهر يناير نفسه ذهبت لكلية القادة والأركان بالخرطوم، وقبل ذلك أي عندما كنا في جبيت نميري كان يمهد لمايو وذلك من خلال الاتصال الشخصي بالضباط، والذي ساعده على ذلك هو أن جبيت كانت مركزاً لتدريب الضباط، وبالتالي كانت الدفعات تتوالى على جبيت دفعة تلو الأخرى سواء كانت في الدورات الحتمية والتي هي قادة فصائل وقادة سرايا أو فرق خاصة، وبهذه الكيفية كنت الفرصة سانحة لجعفر نميري لكي ما يتعرف على عددية كبيرة من ضباط القوات المسلحة، فكان يبعث بالرسائل والمكاتبات لكل الضباط الذين تعرف عليهم وكان يستخدم كرته الشخصي في التواصل مع من عرفهم كان ذلك في الأعياد أو المناسبات المختلفة، هذا التواصل أتاح لنميري بناء العلاقات مع الضباط، أما أنا فقد بدأت العلاقة بيني وبين جعفر نميري منذ فترة بعيدة أي في العام 1964م وما بعد ذلك. هل تذكر لنا بالتحديد أول لقاء جمع بينك وبين جعفر نميري؟ حقيقة في العام 1964م تحرك قطاراً أُطلق عليه اسم قطار الموت الذي انطلق من مدينة كسلا متجهاً نحو الخرطوم لمؤازرة ومناصرة الانتفاضة الشعبية ضد حكم الرئيس عبود، وكان ذلك القطار يحمل سياسيين ونقابيين وزعماء قبائل في شرق السودان، وكان يهمني أنا تحديداً في هذا القطار أخي الأصغر الذي كان عضواً في نقابة الأطباء، فذهبنا إلى السكة حديد لنستقبل هذا القطار القادم من كسلا لأننا كنا نتابعه منذ تحركه، وعند محطة السكة حديد بالخرطوم وجدنا رجلاً يتحدث مع مجموعة من العساكر وهو يرتدي الزي المدني، وهذا الرجل كان هو جعفر محمد نميري الذي كان يتحدث مع عساكر يرتدون الزي الرسمي ووقتها كان هو في الاستيداع ولم يكن في الخدمة ووقتها كان في رتبة المقدم، فحديثه مع العساكر أعجبني ذلك عندما قال إن التعليمات الصادرة لهذا القطار هو أن لا يتحرك من الشجرة وإلا سيطلق عليه الرصاص، ولكن نحن والحديث لجعفر نميري سنبذل مجهوداً حتى يصل القطار لمحطة السكة الحديد في الخرطوم، وقتها عرفت أنه المقدم جعفر محمد نميري ذاك الرجل الذي كان في الاستيداع، ومرت الأيام وعملنا في الجنوب في الأعوام 1965م و1966م عندما كان هوه قائداً لحامية شرق الإستوائية، فسأل الضباط وقتها هناك بأنه يريد أحد الضباط الذين لهم علاقة جيدة بالمنطقة وأهلها فأشار الكل إليّ، وبالفعل قال لي أريدك أن تمكث معي لمدة شهرين أو ثلاثة. كيف كانت ملاحظاتك عليه وأنت تعايشه عن قرب قبل أن يفجر مايو؟ حقيقة في الفترة التي قضيناها سوياً في الجنوب لاحظت أنه قد كسب ود الجنوبيين من السلاطين وأهل المناطق جميعاً في كل المدن التي عملنا فيها، ولم يكن يأتي ذلك من فراغ بل كان كل ذلك نتاج الجهد الذي بذله جعفر نميري هناك. ماذا عن محطة جبيت كنقطة مفصلية في تشكيل ملامح الضباط والثورة؟ كما ذكرت لك جئنا إلى جبيت وتمتنت العلاقات وتقوّت أكثر، وبعد الامتحان التحريري للفرقة في جبيت قال لي جعفر نميري نريدك أن تنتقل لمدرسة المشاه في جبيت هنا ولكن أريدك أن تنتقل بعملك، وكانت هذه أشياء لا بد من ذكرها لأنها يمكن أن تتكشف منها مؤشرات لأشياء كثيرة، وكما ذكرت ذهبت في شهر يناير من العام 1969م لكلية القادة والأركان وجاء جعفر نميري في شهر مارس في زيارة للخرطوم، فقال لي لا بد من أن تحضر لنذهب سوياً للقيادة العامة وذلك من أجل حل بعض المسائل الإدارية، فتقابلنا في القيادة العامة وأنهينا كل المشكلات المتعلقة بمدرسة المشاه في جبيت، وعند خروجنا التقينا الضابط حمد النيل ضيف الذي وجه لنميري سؤالاً باندهاشة «يا جعفر نميري ما الذي جاء بك إلى الخرطوم»، فقال نميري مجيباً «يا سعادتك جئت لعمل انقلاب». ماذا كان تصرفك عندما دار هذا الحديث بين الرجلين سواء كان في شكل ألغاز أو دعابة أو شكوك؟ حقيقة لحظتها أصابتني الدهشة ولم أستطع التحدث. نريد منك تحديد ذاك اليوم لأن إجابة نميري لذاك القائد العسكري ربما كان وراءها ما وراءها خاصة أن شهر مارس لم يكن بعيداً عن مايو؟ كان ذلك القول في يوم 17 مارس 1969م، فاندهشت كما قلت لك ولم أستطع التحدث إلى أن خرجنا من القيادة العامة واصحبني معه في عربته الفولكسواجن والتي كانت متهالكة، فقلت له يا سعادتك لماذا قلت ذلك لأحد ضباط القيادة العامة الكبار، فقال لي أريدهم أن يعيشوا في وهم وربكة. إذن ماذا جرى بعد ذلك أي بنهاية مارس ومجئ أبريل هل تكشف شيء في شخصية جعفر نميري وماذا عن لحظات التخطيط والتدبير وهل ظهر في تلكم الأوقات المدنيين السياسيين؟ حقيقة كان هناك تخطيط لمايو بدأت تظهر ملامحه في تلك الأوقات، وللحقيقة والتاريخ أقول لا توجد أي جهة سياسية شاركت في الخطة أو الفكرة نفسها في المرحلة الأولى، فكانت المسألة عسكرية صرفة ثم شاءت الظروف بأن تكون قوة محددة بها ضباط محددين في خور عمر، فكانت هذه القوة هي النواة الأولى والقوة الأساسية التي نفذت الحركة العسكرية وقامت بتأمين مايو. ماذا عن الشارع إذن طالما اكتملت هناك الصورة؟ حقيقة كانت هناك حاجة ماسة لتحريك الشارع، فنميري هنا كانت له علاقات واسعة جداً وقوية بكل الأحزاب من شيوعيين وناصريين وأمة واتحاديين فضلاً عن أنه كان أنصارياً، فاتصل بكل هؤلاء فلم يجد شريحة قوية ومؤثرة إلا الشيوعيين، وهكذا هو السبب الذي جعل الشيوعيين يتصدرون المشهد وينالون أعلى المواقع في بداية مايو، أما نحن كضباط فلم يكن تفكيرنا منصباً في مسألة الأحزاب وبهذا التفكير قامت مايو، وأقولها للحقيقة والتاريخ أنه من أعظم الناس أمانة وأداءً وإخلاصاً ووفاءً كانوا هم الشيوعيون، فعملوا معنا بتفانٍ ونكران ذات، فالوزير الشيوعي كان يأتي بالتاكسي للاجتماع في القيادة العامة ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر الأستاذ أحمد سليمان، فكوادرهم كانت جيدة ومسؤولة ولهم مقدرة فائقة في نقل المعلومة وحشد الجماهير، فقاموا بعمل تنظيمي كبير جداً وقتذاك. معلوم أن هؤلاء «الشيوعيين» كان على رأسهم عبد الخالق فهل كان يريد أن يلخص مايو أو يجسدها في شخصه وأنت كنت قريباً من هذا الحراك العسكري السياسي؟ حقيقة منذ أول يوم في مايو أنا كنت السكرتير الخاص لرئيس مجلس قيادة الثورة ومن بعد ذلك أصبحت مديراً لمكتب رئيس الجمهورية، فلم أرَ عبد الخالق في ذاك الوقت ولم يأتِ يوماً لمجلس قيادة الثورة ولم يدخل القيادة العامة وقتذاك. هل هناك خطابات وأجندة أو مكاتبات كانت تأتي لنميري في شكل موجهات أو إملاءات والمسائل كلها كانت أمام عينيك باعتبارك السكرتير الخاص؟ نميري في الأيام الأولى للثورة كان يتلقى رسائل كثيرة جداً وخاصة من الشيوعيين، ولكن نميري كان يأخذ المفيد من تلك الرسائل ويتقاضى النظر عما سواه من كتابات، فكانوا يصرون على كتابة الاتحاد السوفيتي العظيم فعندما كنا نشطب هذه العبارة كان رد نميري لنا اكتبوها لهم ولا تشطبوها طالما كان ذلك هو رأيهم. أما كان يستفزكم كعسكريين وقتذاك شعار الشارع الصاخب «سايرين.. سايرين.. في طريق لينين»؟ كان يستفزنا جداً كعسكريين ذاك الشعار، وحقيقة وكما ذكرت لك لولا الشخصيات التي عملت معنا من الشيوعيين بصدق لما كان قد عاش الحزب الشيوعي لحظة في مايو، فكانت حتى كلمة الاتحاد السوفيتي العظيم كما ذكرت نقوم بشطبها من المكاتبات، فسلوك بعض الأفراد الشيوعيين ومسلكهم في ذاك الوقت وتعاونهم معنا هو الذي حقق لهم الوجود في مايو. عندما كانوا يرددون شعار «سايرين.. سايرين في طريق لينين» هل كانوا يسلكون طريق الكفر والإلحاد خاصة ممن هم كانوا حولكم؟ لا.. أبداً.. فالذين كانوا معنا ورأيناهم وعايشناهم عن قرب لم يسلكوا طريق الكفر والإلحاد، بل كانوا يقيمون الصلوات تلو الصلوات. هل كان مجلس قيادة الثورة والثورة بكر يرتعش عند سماع اسم عبد الخالق؟ مجلس قيادة الثورة كان ضد وجود أي شيء له صلة بالشيوعية وعلى رأس ذلك القيادات بمن فيهم عبد الخالق، ولكن نميري هو الذي كان يقول دوماً أصبروا فهذا ليس هو وقت المفاصلة أو الخلافات. بعد البيان الأول أو قبله أو ما تلى ذلك من بيانات ذكرت أنك لم ترَ عبد الخالق ظاهراً في المشهد وقتذاك هل نما إلى علمك أو سمعت أنه حضر للقيادة العامة ولو خلسة أو خفية؟ لم يدخل عبد الخالق القيادة العامة على الإطلاق، وأنا في كل اجتماعات نميري كنت موجوداً، فقد تكون كل الاجتماعات من هذا النوع تجري خارج القيادة العامة ولكن في داخل القيادة لم تحدث مثل هذه اللقاءات، فبحكم موقعي كنت شاهد عيان على كل كبيرة وصغيرة. هل أخطأت مايو من بعد ذلك عندما أعدمت عبد الخالق؟ نعم.. أخطأت فأنا ضد قرار الإعدام لأي سبب من الأسباب، لأن قرار الإعدام هو دائماً قرار جبان. بعد البيان الأول لمايو انطلقت أشعار الراحل محجوب شريف كيف كان وقعها عندكم؟ تلك الأشعار أعجبتنا كثيراً وإلى الآن لها وقع طيب على أسماعنا، ونميري كان يحب محجوب شريف، وأذكر هنا ذات يوم جاءني الموسيقار بشير عباس وقال لي إن «الجماعة» قد اعتقلوا الفنان محمد وردي، فقلت له لماذا اعتقلوه وكيف.. فذهبت بعد اتصالات عديدة لمكان وردي وأطلقت سراحه، وعندما تحدثت مع نميري حول هذا التصرف الذي قمت به شجعني وقال هذا عمل جميل وطيب أي أنني وجدته يؤيدني هنا. فنميري كان بعيداً من الأمن وأيضاً بعيد من الاستخبارات العسكرية. محطة انقلاب هاشم العطا كنقطة مفصلية في مسيرة مايو الأولى كيف كان تقييمكم للمواجهات الدامية التي حدثت والإعدامات التي جرت بعد فشل الانقلاب؟ حقيقة لقد ندم كثيراً جعفر نميري بعد اعدام قادة الانقلاب، فهؤلاء كانوا أصدقاء لنا جميعاً وأذكر منهم هاشم العطا وعبد المنعم محمد أحمد والذين عملنا معهم في توريت وفي الأعوام التي سبقت مايو. وكانوا معنا أيضاً في جبيت، وعثمان أبو شيبة كان قائداً للحرس الجمهوري وهو صديق حميم بالنسبة لنا، وللحقيقة والتاريخ أقول إن هاشم العطا كان من أميز الضباط الذين عملوا مع جعفر نميري في القيادة الجنوبية، فما يجمعنا كانت هي العلاقات الأخوية والمهنية. هل كان هاشم العطا شيوعياً؟ أنا حتى الآن غير مقتنع بأن هاشم العطا كان شيوعياً. هل قدموا لك الدعوة للمشاركة معهم في الانقلاب؟ قبل انقلاب هاشم العطا كنا نجري التحضيرات والاستعدادات لزيارة كوستي، وكان الرئيس يريد وقتها إعلان مدينة كوستي عاصمة سياسية للسودان، وأنا تحديداً أُسندت لي مهمة التحضير لهذه الزيارة والترتيب لنقل العاصمة إلى هناك، وعادة نحن نأتي لمكاتبنا مبكراً ويومياً كنت أقوم بوضع حديث نبوي شريف فوق أي بوستة على مكتب الرئيس، وأذكر أنه في يوم انقلاب هاشم العطا جاءني صباح نفس اليوم مساعد ضابط استخبارات القصر وكان ذلك الساعة السابعة والنصف صباحاً وكنت وقتها مشغولاً بالتحضير لزيارة كوستي، فقال يا سعادتك بعد ظهر اليوم وتحديداً بعد الساعة الثالثة الشيوعيين سيقومون بانقلاب، فقلت له مثل هذه المعلومات لا تقال هكذا فأرجو أن تكتب تقرير بهذا المعنى للرئيس حتى أضعه أمام التربيزة، فعندما قرأ نميري التقرير قال لي ما هذا، فقلت له وفقاً لإفادة الاستخبارات فإن انقلاب الشيوعيين سيكون اليوم.